جميع الأخبار في مكان واحد

“أمناي الأمازيغي أو الهوية السّرية” .. رواية تعيد الاعتبار لثقافة الهامشي

صدرت أخيرا الترجمة العربية لرواية “أمناي الأمازيغي، أو الهوية السِّرِّية”، لصاحبها حميد توالي (حميد تُوعلي)، وهو أستاذ بالديار السويسرية؛ وقد ترجمها السوسيولوجي والمترجم الألمعيّ عبد الله زارو، بل هي أفضل ترجماته على الإطلاق، هذا وصدرت لأول مرة في باريس عام 2016 باللغة الفرنسية.

تقع الرواية، في نسختها العربية، في 328 صفحة، وتعيد الاعتبار للهامشي ولثقافته وهويته… إنها رواية تاريخية تؤرخ لقضايا حساسة من تاريخ شعبنا وللحركة الطلابية، إذ تؤرخ لفاعلين وظروف تأسيس الحركة الثقافية الأمازيغية بكل من جامعة ظهر المهراز (فاس) وجامعة مكناس بداية التسعينيات، وتؤرخ لوقائع دخول الإسلاميين لأول مرة إلى الجامعة المغربية (بظهر المهراز) وصراعهم الدموي مع اليسار، الذي بدوره أراد الاستفراد بالجامعة ومنع المخالفين له من دخولها، وأحداث مقتل عيسى آيت الجيد، وغيرها…

اختار الراوي ألا تتمحور الأحداث حول بطل واحد، وإنما حول أبطال بصيغة الجمع، وهي تبدأ بهذا “الإزلي” الأمازيغي الخالد “A wennaizerrinamargdigi” (يا ما يترك الشوق في فؤادي)، حيث يصف وقائع “تامغرا” (العرس) التي التقطت أذنا أمناي أصواتها فقادته إليها. حتى وهو في قلب النغم وإنشاد “الإزلان” والأغاني في “تامغرا” يظل أمناي فريدا، مسكونا بالهمّ الأنطولوجي للأمازيغيين الذين نسوا أو تناسوا أو أنسوا وجودهم وانصهروا في أحداث اليومي وتفاصيل العرس، غافلين عن تلك الرغبة المتربصة بهم لإفقار جمالية وجودهم التي بدأت تنسلّ في مسام جسم هذا المجتمع الهَرِم، الذي أنهكته الأيديولوجيات غير النابعة من عبقرية ترابه.

لم يقف أمناي مكتوف اليدين أمام التعمية والتلاعب وكل ما يجري لمجتمعه، بل تحرك واستنهض الهمم، ومن تحركه وتعبئته للأرواح نفهم كيف نشأت الحركة الاجتماعية ووُلدت أحلام التغيير، وندرك السيرورة التي قطعها الوعي الفردي ليصير فعلا جماعيا حالماً بالتغيير، كما نفهم أيضا تفاصيل أشخاص تخلوا عن مبادئهم، وندرك ما الذي يمكن أن يدفع المرء إلى التخلي عن مُثله وقيمه وأحلامه ونضاله وثوريته؛ فهو يقتحم الأسئلة الوجودية والفلسفية الكبرى لمعيش الفاعلين، بل إن كل لحظة من لحظات الرواية هي شكلٌ من الحياة والهوية والاعتراف، فالرواية حيوات وعمل أدبي وفني يحاكي العقل الإنساني من خلال علاقة الذات بالمرئي والمحسوس والروحاني.

لهذا النص، إذن، لذة مؤلمة يخرج فيها القارئ بندوب غائرة، إذ يأبى الراوي أن يتركه قرير العين مرتاح السريرة. وهذا العمل الأدبي يحتفظ بشكله الذي يستعصي على الدلالة الجاهزة، فهو لا يكشف عن حلمه كي لا يتم تفسيره بالرجوع إلى ما هو كائن، وإنما بالتحرر مما هو كائن.

أمناي لا يستسيغ كيف يمكن لإنسان أن ينكر كينونة إنسان آخر مختلف عنه في اللغة والهوية، مستغلا دور الاستعمار في قلب موازين القوى ليتحوّل إلى مهيمِن يفصّل في الوطنية وفق المقاس ويحدد الهويات واللغات وفق هواه. بل إن القارئ اللبيب سيدرك كيف تم السطو على تاريخ الحركة الثقافية الأمازيغية عبر الخلط المتعمد بينها وبين تاريخ الجمعيات الأمازيغية. لهذا يبني الراوي تاريخا مستعادا لتجربة فردية وجماعية، ولأمكنة أصبحت معالم ذكرى، ليُعيد ترميم عالمٍ أريد له الزوال.

نجد أمناي في أحد المقاطع يقول: “لا بد أن السلطة تعرف كيف تكبّل الشباب بالبطالة وتحاصر أنشطتهم الجمعوية بالسجون وتقتل الأفكار وهي في مهدها، وتعرف أيضا كيف تضبّع الشعب فيقف الشباب المتنور أمام جمهور من الفاشلين الذين لا يفهمون أو لا يريدون أن يفهموا”، إلا أن حُرقته الأشد كانت حين استحضر أمثلة لأناس ومناضلين تنكّروا لمبادئهم، الأمر الذي يجعل المناضل الحقيقي بين مطرقة السلطة وسندان الشعب؛ لكن صديقه نيلاسن أكد له أيضا أن “آيت” (آيت نعت للأمازيغيين لأن كل قبيلة تبدأ بـ آيت كذا وكذا) لا يساعدون بعضهم البعض، فقد كان أوتول Awtul في أمسّ الحاجة إليهم بعد حصوله على دبلومه، لكن لا أحد منهم ساعده، واضطر لمغادرة المنطقة ومعها القضية، لهذا فـ”لا تُجحف في حق هؤلاء المساكين الفقراء، الذين يسيء لهم الكثير من الكُتاب سليطي القلم بحديثهم عن قيم تيويزي، بينما لا يقدمون لهم درهما واحدا”. هذه واحدة من مشاكل إيمازيغن، فلا يرتبط الأمر بالذين في أعلى فقط، وإنما أيضا بهؤلاء الذين هم في أسفل كذلك، الخ.

لقد كان شخص الراوي شديد الاتزان ولم يسجل عنه المحكيّ أنه اختار الحل السهل أبدا، متمثلا في العنف أو التشنج أو الاستقواء بالعدد؛ تغليبه كان للتفكير المبني على البحث الدقيق والهادئ للدفاع عن قضية ليس لها ما تعمله بالاندفاع والطيش والتعصب والتشنج، خصوصا أنها جميعها أسلحة الخصم التي يواجهها أمناي بمعنويات رِواقية قوامها رباطة جأش، وموضوعية، وامتناع راقٍ عن إصدار الأحكام السهلة وحشر الأشخاص واختياراتهم في خانات ضيقة. إنها رواية شاهدة على عصر بأكمله، إذ ترسم صورة معقدّة وقوية لمغربٍ يصارع فيه الواقعُ الخيال. وبكتابتها السلسة وبأسلوبها الملحمي، تُثري هذه الروايةُ على نحو رائع تاريخ شعبنا وموروثه الأدبي.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.