جميع الأخبار في مكان واحد

الناقد بين الشاشة والصفحات البيضاء .. تحولات المشاهدة والتأويل النقدي

غيّر الشاب الذي كان يبيع نسخ الأفلام المقرصنة في مقاهي الدار البيضاء سلعته، صار يبيع الملابس الداخلية. لقد احتفظ الشاب بمهنته كبائع متجول؛ لكنه غيّر سلعته بسبب الوباء ومنصات المشاهدة. حاليا، انقرض باعة الأفلام المقرصنة، قديمة وجديدة، على أرصفة مدن المغرب.

كان طلب نسخة فيلم قديم وانتظار الحصول عليه يجعل الفرجة حدثا كبيرا. صار الآن بالإمكان شراء مشاهدة فيلم بكبسة زر في أية لحظة. صار إيقاع المشاهدة أسرع، ولهذا تبعات على عمق الكتابة النقدية.

شاهدت فيلما جديدا مبهرا على منصة عرض أفلام جديدة. سجّلت ملاحظات، وبعد ساعات جلست لتحرير تلك الملاحظات في مقال. واجهت صعوبة في تحديد زاوية مقاربة، على الرغم من فحص الفيلم بمفاهيم عديدة، اتضح أن هذا ليس فيلما عظيما، هو فيلم بسيط فنيا ومتفوق تقنيا، ظهر كتحفة بعد الخيبة التي نتجت عن مشاهدة أفلام كثيرة جديدة تشبه الوجبات السريعة، أفلام فيها مؤثرات بصرية وصوتية شديدة، لم تصنع أثناء التصوير بل في حيل تقنية لمرحلة ما بعد الإنتاج. لا تصنع حيل المونتاج فرجة حقيقية.

تسببت هذه الحيل التقنية ووفرة الأفلام الجديدة وغزارتها في افتقاد المسافة الزمنية بين مشاهدة وأخرى، وهذا يضعف الكتابة النقدية.

لتوضيح ما سبق هذه برهنة بالخُلف كتبتها عن أفلام من نوع مختلف:

كيف يعيد سرد الأفلام استخدام وظائف فلادمير بروب في كتابه “مورفولوجية الخرافة”؟

في فيلم إي تي ET 1982 للمخرج ستيفن سبيلبرغ، تزور مركبة فضائية الأرض وفي لحظة خطر تغادر وتترك مخلوقا فضائيا من أفرادها على الأرض. في فيلم “المريخي” 2015 لريدلي سكوت تغادر مركبة أرضية كوكب المريخ فجأة خوفا من عاصفة وتترك هناك أحد أفرادها…على تربة حمراء. هكذا عاش البطلان النأي والغياب، فنهضا لمقاومة الإساءة… واحد يزرع البطاطس في المريخ والآخر يتأنسن تدريجيا… وهنا يكتشف المتفرج عوالم جديدة.

تتقارب يدا المخلوق الفضائي والطفل في فيلم سبيلبرغ، وهذا يذكر بلوحة يد الله ويد آدم لمايكل أنجلو.

في مثل هذه الأفلام التي شوهدت في ما يكفي من الوقت، يظهر أنه في كل مشهد هناك سر ما يبغي المتفرج اكتشافه. وأثناء اكتشافه يظهر أفق جديد مثل محاولة البطل زراعة البطاطس في المريخ… هكذا يتسلسل التشويق.

هذه مقارنات تحققت في زمن مشاهدة فيلم في الأسبوع في قاعة سينما. لكن حاليا، مع منصات متعددة يمكن مشاهدة أفلام عديدة في اليوم أو الانتقال بين أفلام عديدة. صار الإيقاع أسرع في المشاهدة وهذا مضر بالكتابة. لقد فرض الوباء تغييرا كونيا في امتداده، عميقا في أثره، سريعا في إيقاعه على البشر وعلى رواج الأفلام.

يحتاج النقد التطبيقي معاينة أفلام جيدة تحرض على الإدلاء برأي متولد من معرفة وخبرة في المشاهدة.

لحظة المشاهدة هي لحظة تخلص من الروتين اليومي. هي لحظة تخييل وسفر ضرورية كل يوم. لا توفر كل الأفلام هذه الرحلة للمتفرج. حين تغيب كثافة التخييل ودقة التفاصيل يصعب إصدار رأي تقييمي يعبر عن موقف وتذوق.

تحتاج ممارسة النقد السينمائي شجاعة كبيرة في القول مع تجنب المعلومات التي تقدمها “ويكيبيديا” والنقد ضروري للفرز الفني بين الأفلام.

من أين يستمد النقد السينمائي قوته؟

يستمدها من كونه عرضا وتفسيرا لأثر المشاهدة في هذه اللحظة. أثر ترك بصمة على خيال ووجدان المتلقي. فمهما كان تاريخ صدور الفيلم فإن التعليق عليه هو ثمرة المشاهدة هنا والآن. كل تعليق نقدي يحمل بصمة زمن إنتاجه فإنه يفسر للمتلقي ما يعيشه. لا تملك كل الأفلام هذه الطاقة الدلالية، وخاصة الأفلام التي تكتب وتنتج وتعرض بسرعة في منصات المشاهدة. وفي ظل هذا الوضع تزداد الحاجة إلى النقد السينمائي.

“إن النقد ليس مُلحقا سطحيا بالأدب وإنما هو قرينه الضروري”، (تزفيتان تودوروف، نقد النقد، ترجمة سامي سويدان، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، 1986، ص 16) تنطبق الحاجة إلى القرين المفسر على السينما أيضا.

في الكتابة النقدية، يطالب فاولر روجر بـ”تجاوز وصف الأنساق إلى تفسير وتأويل وتعليل الاحتياجات الاجتماعية والتواصلية التي جاء النص [الفيلم] ليخدمها”، (فاولر، روجر، النقد اللساني، ترجمة عفاف البطاينة، المنظمة العربية للترجمة، ط.1 بيروت 2012. ص9.). إن الأنساق دالة، وليست مجانية. إن الأشكال الفنية معبرة، وليست مجرد زخارف خارجية.

يعمل النقد على كشف الأنساق ومعنى الصور واللقطات كما ظهر بالمقارنة بين فيلمي ستيفن سبيلبرغ وريدلي سكوت. يعمل النقد على تشخيص الشحنة العاطفية والأيديولوجية في اللقطات… يبرز قدرة الطاقة التخييلية لفيلم ما على التفكير خارج حدود الراهن… على كشف ما تُحيل عليه اللقطات وتتناص معه.

لا بد للعمل الفني من قرين تأويلي. لكي يتطور هذا القرين يحتاج النقد التطبيقي معاينة أفلام جيدة فيها صور تولد معنى. حينها يجد الناقد ما يعلق عليه. أما حين تكثر وتتوالى الأفلام المتشابهة فلا يجد الناقد ما يكتبه، ويكون أمام خيارين:

ـ الخيار الأول هو أن يشرُد نحو التنظير واستظهار معرفته بأفلام قديمة. ما أصعب الكتابة عن الأفلام الجديدة وما أكثر السخاء في وصف الأفلام القديمة، أفلام الأموات خاصة.

ـ الخيار الثاني هو أن يُقطع الناقد من لحمه منه ليُرقّع الفيلم الرديء، أو يحرق قصة الفيلم حين يعيد حكيها بدل التعليق على أسلوبها أو يحمّل اللقطات تأويلات من خارجها.

لا جدوى من الكتابة على الأفلام الضعيفة دلاليا حتى لو كانت متقنة تكنولوجيا. لا يمكن للتقنية والآلة أن تحل محل الفن، محل إنتاج معنى يضيء الحياة. حينها يجد الناقد ما يعلق عليه، يجد ما يؤله.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.