جميع الأخبار في مكان واحد

الإمكانات التنموية بالمنطقة المغاربية ورهان التنمية (2): الإمكانات الإقتصادية

إتماما لمقالنا السابق، حول رصد أهم الإمكانات التي تزخر بها المنطقة المغاربية، في أفق تنمية مستدامة تلبي حاجيات ألأجيال الحالية، وتحافظ على مستقبل الأجيال اللاحقة، نخصص مقالنا هذا، لرصد أهم المقومات الاقتصادية. إيمانا بأهمية تشخيص المؤهلات قبل بناء التصورات، وعكسها واقعيا لتحقيق رفاهية الشعوب المغاربية.

تمتاز المنطقة المغاربية بتنوع خلفياتها الاقتصادية، ومن تمة، تنوع الأداء الاقتصادي؛ أداء، يختلف حجمه باختلاف المرجعيات الإقتصادية لكل قطر مغاربي. حيث يمكن التمييز بين مرجعيتين أساسيتين.

قبل رصد المرجعتين، نعتقد أنه من الضروري الإشارة إلى أن هذه المقالة، لن تغوص في الماضي وتتبع ما كان، بل ستنطلق من ما هو كائن واستشراف المستقبل، كما لا يعنيها تلميع تجربة على حساب تجربة أخرى، بقدر ما يهمها رصد المقومات المتوفرة،  قبل  الانتقال لإبراز مجموعة من الملاحظات التي نعتقد أنها مهمة للمساهمة في انقشاع ضبابية الرؤية الاقتصادية بالمنطقة.

المرجعية الاقتصادية الإصلاحية ذات النزعة الليبرالية: تتمثل في التجريبتين التونسية والمغربية؛ حيث تمكنا البلدين من جلب إستثمارات أجنبية مهمة، كان لها انعكاس مباشر على حجم الناتج الداخلي الخام، وأسهم في رفع القيمة المضافة، التي تعتبر محددا محوريا في تقييم الأداءات الإقتصادية للدول من طرف المؤسسات المالية العالمية.

لقد إستطاع المغرب، أن يحقق نموا اقتصاديا خلال العقدين الأخيرين، قياسا لمرحلة ما قبل القرن الحالي؛ فقد انتقل من اقتصاد الجباية، واقتصاد  الفلاحة والصيد البحري وعائدات العمالة بالخارج، إلى اقتصاد متنوع،  رغم عدم القطع الصريح مع اقتصاد الريع. من المؤشرات الدالة على هذا التحول،  دخول المغرب إلى مجال صناعة الطيران عبر استقطاب وإنشاء شركات في مجالي قطاع الغيار وتكنولوجيا الطائرات، جعلت من المغرب مزودا أساسيا للأساطيل التي تمتلك طائرات الإيرباص والبوينغ، كما انه أصبح منصة محورية بالمجال المتوسطي في صناعة السيارات، ومستحوذا على جزء مهم من المبادلات التجارية بالبحر الأبيض المتوسط عبر “ميناء طنجة ميد” الذي يعتبر أكبر ميناء تجاري بالمنطقة المتوسطية. ومتوفرا على بنية تحتية محترمة، كالقطار الفائق السرعة والمنصة الصناعية الحرة  “طنجة المتوسط” ومشروع “طنجة تيك”، مما ساهم في جعل المغرب قبلة لمجموعة من الشركات العالمية، ومنافسا قويا في مجال “الأفشورينغ”،  يضاف كل ذلك، إلى ما تحقق في مجال الخوصصة التي بدأها المغرب مع تدشين مرحلة “التناوب”، بغض النظر عن الخلفيات المتحكمة في ذلك.

أما تونس، فقد عملت على إدخال مجموعة من الاصلاحات الليبرالية رغم أنها تركز على الاستثمار في المشاريع ذات القيمة المضافة البطيئة، وتخضع للتحولات السياسية الأنية التي تعيشها، إضافة إلى التحديات التي فرضتها جائحة الكوفيد.

تتبنى موريتانيا نفس القالب الاقتصادي الليبرالي القائم على اقتصاد السوق، لكنها لا زالت تترنح في ظل غياب إصلاحات اقتصادية عميقة، مما جعلها منغمسة في وسط اختلالات هيكلية تؤثر على عائدات الصيد البحري وقطاع المعادن و تنعكس سلبا على الناتج الداخلي الخام وتبقي موريتانيا ضمن الدول المتخلفة اقتصاديا رغم إمكاناتها المحترمة.

المرجعية الإقتصادية ذات النزعة القائمة على “التأميم” متجسدة في التجربة الجزائرية، التي قررت منذ مرحلة هواري بومدين، الاعتماد على الاقتصاد الإشتراكي الذي تعد فيه الدولة المحور المحرك للإقتصاد، لتعمل الجزائر على تأميم مشاريع الطاقات الأحفورية خاصة الغازالطبيعي، الأمر الذي ضيق فرص الابتكار والمنافسة، أرغمت معه المؤسسات التمويلية الجزائرية على “الغرف” من صناديق عائدات الغاز الطبيعي بنسبة تصل إلى  97%.

التغيرات الجذرية التي فرضها “كوفيد 19” وتأثيره الكبير على عائدات الغاز الطبيعي، أرغم الدولة الجزائرية على الإنفتاح من خلال تقليص القيود على القطاع الخاص، دفع صندوق النقد الدولي إلى تشجيع الحكومة الجزائرية للاستمرار في هذا التوجه. لكن هل انفتاح الجزائر تصور استراتجي، أم ضرورة فرضتها الظرفية؟.

التشخيص البسيط للواقع الإقتصادي بالمنطقة المغاربية، يفرض على المغرب وتونس ضرورة وضوح الرؤية في اتجاه تعزيز الليبرالية الاقتصادية، مع ضرورة حماية المشاريع غير المهيكلة وعدم وأدها، بل تأهيلها عبر التخفيف من العبء الضريبي، وتبسيط المساطر الإدارية ومحاربة البيروقراطية وتجويد مناخ الأعمال، وتحقيق الحرية المالية وابتعاد الدولة (المؤسسات الحكومية) عن مجال الاستثمار وتركه لمجال التنافس بين الأفراد في القطاع الخاص، مع احتفاظها(الدولة) بدور توفير السلع الأساسية كما ينزع إلى ذلك مؤسس الليبرالية الكلاسيكية آدم سميت في كتابه “ثروة الأمم”؛ الذي يؤكد أيضا على أن الأفراد قادرون على تنظيم أنفسهم في مجال التداول الاقتصادي دون تدخل الدولة من منطلق أن السلوك الاقتصادي للأفراد مدفوع دائما بالمصلحة الذاتية التي تصب في المصلحة الجماعية.

أما الجزائر، فأصبحت مجبرة على تعزيز نموذج النمو بقيادة القطاع الخاص، فالاقتصاد الجزائري حالياً يعتمد نموذج نمو مدفوعً بقطاع عام متضخّم قيّد بيئة الأعمال وتطوير القطاع الخاص كما تذهب إلى ذلك الباحثة في معهد “بروكنجز” ياسمين أبو الزهور، كما أنها (الجزائر) مجبرة على الحسم بين خيارين، أتريد النكوص والارتواء من التجربة الاشتراكية ذات النزعة العسكرية مع ما يعنيه من تخلف وتقويض للابداع والابتكار وزيادة الثروة؟ أم تريد الحدو نفس مسار المغرب وتونس والتحول نحو المنطق الليبرالي، وهو ما أشار إليه تقرير خبراء صندوق النقد الدولي لعام  2021من خلال توصية جاء فيها “يتطلب انتقال الجزائر إلى نموذج جديد للنمو، القيام بإصلاحات هيكلية واسعة النطاق، بما في ذلك إجراءات تحسين الحوكمة الاقتصادية ودعم نمو قطاع خاص ديناميكي وخلق فرص العمل”.

في انتظار وضوح الرؤية بليبيا بعد إنجاز الإنتخابات وإرساء مؤسسات الدولة. وفي انتظار قيام موريتانيا بإصلاحات عميقة تقطع مع التقليدانية الإقتصادية وتتبنى تصورا اقتصاديا يشجع المنافسة. نؤكد أن الخيار الليبرالي المبني على محدودية تدخل الدولة هو المدخل الحقيقي لإقلاع المنطقة المغاربية اقتصاديا.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.