أصيلة تلم شمل شعراء ونقاد وأكاديميين للتأمل في واقع الإبداع العربي
من أنحاء عديدة بالعالم العربي، جمع الشعر بأصيلة شعراء ونقادا، إلقاء، وتأملا، ونقاشا في لغته، وواقعه، وحاجة الشاعر إلى نفث روح جديدة في الكلمات.
هذا اللقاء الشعري الثاني، الذي امتد يومين بمركز الحسن الثاني للملتقيات الدولية، نظم في إطار الدورة الثانية والأربعين من موسم أصيلة الثقافي، ونسقه الأكاديمي والناقد شرف الدين ماجدولين.
وشارك في اللقاء ذاته أكاديميون ونقاد وشعراء من الأردن، وفلسطين، والبحرين، والمغرب، وتونس، ولبنان، ومصر.
وفي أرضية اللقاء، ساءل ماجدولين اللغة التي يُكتَب بها الشعر العربي اليوم، “مع تنامي الاختيارات الأسلوبية، والأغراض الفنية، والمقامات التعبيرية؛ جنبا إلى جنب مع اتساع جغرافية اللغات واللهجات المحتضنة للأصوات الشعرية العربية”.
وتابع منسق اللقاء: “منذ أزيد من خمسة عقود تساكن الشعر العمودي مع شعر التفعيلة وقصيدة النثر والزجل والشعر العامي، مع ما كتبه شعراء عرب من أشعار بالفرنسية أساسا، ثم بلغات أخرى بدرجة أقل، وانطبقت عليها أوصاف من قبيل: الشعر المغربي المكتوب بالفرنسية أو الشعر اللبناني الفرانكفوني، أو الشعر الجزائري أو المصري المكتوب بالفرنسية”.
هذه الظاهرة، وفق ماجدولين، “لم تكن تطرح سؤال الانتماء إلى المجتمع الثقافي العربي، وممكناته التعبيرية، واختياراته الموضوعية”، إذ “اعتبرت هذه التجليات اللغوية تنويعات على شعرية عربية رحبة متعددة الأعطاف والمقامات”.
وأضاف المنسق: “يستمر اليوم تشظي القاعدة اللغوية إلى مستويات تنحت فجوات حتى بين التعبيرات العربية الفصيحة، لتوجد مسافات ما بين لغات مغرقة في محليتها وأخرى وسيطة وثالثة كلاسيكية، مع خفوت تدريجي لظاهرة الكتابة بلغات أجنبية، التي كانت لحظة عنفوانها في النصف الثاني من القرن الماضي”، وهي “سمة تزامنت مع التضاؤل المتسارع للنخب الثقافية التي عاشت زمن الاستعمار (…) والعقود الأولى لاستقلال الأقطار العربية، ومن ثم تلاشي تأثير المكتسب اللغوي الذي نعته كاتب ياسين يوما بـ’غنيمة الحرب’”.
ويذكر شرف الدين ماجدولين أن “فهم مجال التداول والتلقي، المتصل بتجليات الشعر العربي اليوم”، يقتضي “العودة إلى قاعدة اللغة، بما هي مرتكز أول للتأثير وإنتاج المعنى، مع تسارع إيقاع البحث عن الصيغ الأكثر نفاذا في فن بات اليوم محدود الانتشار، بعد تفاقم مساحات التعارض بين الغموض والمباشرة وما بين الصواب والخطأ في الكثير مما ينشر ويعرض لجمهور القراء، رغم الفسيفساء اللغوية المترامية لتعبيراته، في مختلف أصقاع العالم العربي”.
وطرح ياسين عدنان، شاعر وروائي، سؤال لغات الكتابة بوصفه “سؤالا ديمقراطيا”، عند تنظيم نشاط ثقافي، مثل معرض للكتاب، حيث “يجب أن يأخذ الجميع حظهم من الحضور”.
وذكر عدنان أن هذا التعدد اللغوي “جزء لا يتجزأ من شخصية مغربية تعيش وحدة داخل التنوع”، وتابع: “من حسن حظنا الخروج من أسطورة الواحدية، وفكرة أن هناك شيء خالص. أوجد في الصفوف الأولى للدفاع عن اللغة العربية لكن الدفاع عنها لا يكون من منطلق الانغلاق، بل بالاغتناء بالفسيفساء… لا أتكلم الأمازيغية ولا أقرؤها لكنها لغة جدتي التي أعطتني الشعر، وهي جانب أعتز به حتى وأنا لا أتكلمها”.
واستحضر المتحدث نماذج الروائي المغربي عبد القادر بنعلي الذي يكتب باللغة الهولندية، ومحمد شكري في ترجمته الفرنسية، ومحمد زفزاف، ليقول: “المتخيل المغربي واحد… واللغات تكثفه، وهم يكتبون أدبا مغربيا بمختلف اللغات، ونفخر بهذا التعدد اللغوي”.
وفي كلمته ضمن ندوة لغة الشعر العربي اليوم، تساءل ياسين عدنان عما يقصده محمود درويش عندما يردّد “أنا لغتي”، و”من لغتي وُلدت”: “اللغة العربية التي كتب بها دواوينه؟ أم لغته الشاعرة: تلك اللغة الفردية الخاصة التي يبدعها الشاعر من داخل اللغة المعيارِ الخلفية والإطار؟”.
واسترسل الشاعر في تساؤله: “ما الذي يعني الشاعرَ أساسا: اللغة/المعجم باعتبارها مادة يشتغل بها ويبني من خلالها خطابه الشعري (…) أم إن اللغة بالنسبة للشاعر موطن ومقام؟ مقصودة لذاتها وفي ذاتها”، قبل أن يسجل أن الاشتغال على اللغة بـ”جسارة وافتتان بغية تحرير الكلمات من دلالاتها القاموسية واستعمالاتها المعيارية، لعله من صميم المشروع الإبداعي لكل شاعر”.
وأكد عدنان أن “كل تحرير للكلمات من أغلال المعاجم والقواميس إنما هو جزء لا يتجزأ من مسعى الشاعر الحديث لإنجاز مهمته التي سبق لآرثر رامبو أن حددها في ‘العثور على لغة’..لكن الشاعر لا يعثر على لغته هكذا لُقيَة في الطريق، ولا يجدها خارج ذاته وخارج اللغة ذاتها.. إن لغة الشاعر الخاصة تُدرَك بالمكابدة وعبرها”.
من جهته، قال قاسم حداد، شاعر بحريني، إن الشعر “أصدق تاريخ للعرب”. وفي تفاعل مع سؤال تلميذة عن “مصدر الإلهام الشعري” ذكر أن “تجارب البشر وحياتهم بالغة العمق، وما يميز الشاعر قدرته على التعبير عنها، وكذلك الكاتب والرسام والموسيقي والسينمائي”، بقدر ما توفرت لديهم “المعرفة والحساسية”، وزاد شارحا: “الشعر ليس تعبيرا عن الجموع، بل تنفيس ذاتي، وبقدر ذاتيته بقدر صدقه، فهو اختزال غير مخلّ للحياة”.
وأضاف حداد في كلمته ضمن الندوة: “اللغة دائما نظام مؤلف من عدة مستويات صوتية ونحوية ودلالية وغيرها، والقصيدة متوالية دلالية تتآلف وعندما يتعلق الأمر بالكتابة؛ اللغة موضوعنا أولا وأخيرا، ولا نتكلم في شيء خارجها”، ثم زاد: “لا تصل إلى الشعر إلا بلغتك”، التي هي “ملكيتك الخاصة”، و”بصيرة قلبك إن كنت بصيرا”.
وتابع الشاعر ذاته: “اللغة هي التي تتكلم، ولا يتكلم الإنسان إلا بقدر ما يصدر عن اللغة، بقدر إصغائه لما تقوله. وتأخذ اللغة طبيعتها الروحية من الأنفاس البشرية التي تنفثها أثناء الحياة”، وواصل: “كلما سهر الكاتب على أبجديته، تسنى للغة القيام بعملها؛ فتنشأ مثل أطفال يهرعون في حوش البيت، فيما هم يكبرون كل نهار، وهي مسار متجدد، والنص بيتها، والكتابة حقلها كثير الخضرة، واللغة لا تتوقف عن النمو، ولا تكف عن الولادة”.
كما قال قاسم حداد إن “اللغة خلاصنا من أسطورة الصمت”، وهي “للعشق وليست للقداسة”، وواصل: “الإخلاص للغة لا يتمثل في تقديسها بل في حبها حد الاحترام، دون تبجيل، فقد تكون في منزلة الآلهة لكن دون تقديس؛ فلا صلاة لها ولا خضوع ولا امتثال”.
ويرى حداد أن الكلام لم يعد اليوم عن “الشاعر الوحيد الأوحد المقياسِ لغيره”، فـ”لكل شاعر لغته الخاصة التي يجب أن يقنعَ القارئ بأن ما يكتبه بها شعر بالفعل”.
وتحدث زهير أبو شايب، شاعر أردني، عن “القصيدة التي دائما تشبه كاتبها، كما الجنين مع أبويه لتكون ملامحه دليلا على أصله”، وتابع: “لغة القصيدة العربية الراهنة ابنة الواقع الذي تعيشه، لكل الكوابيس والدموع والتشوهات والتشوفات”.
وواصل المتدخل: “الهذيان الذي نجده لدى السياسي والمتدين والمفكر والموسيقي وغيرهم ممن يصنعون الراهن العربي نجده بتفاصيله عند الشاعر”؛ فلغة الشاعر؛ “صورة للفوضى وما يحدث”.
كما قال أبو شايب إن “الشعر العربي الآن ليس بخير، وانهياراته وهذياناته ليست دليل عافية على الإطلاق”، والعزوف عن هذا الشعر “موقف نقدي، في أحد أوجهه”.
ونبه الشاعر الأردني إلى الحاجة إلى إدراك أن “خراب القصيدة تفصيل صغير عن الخراب العام”، من “فساد وبلبلة لسان … من صنع الذات الجمعية، لا الشاعر وحده”، علما أن “تشريح الخراب يقتضي منا قراءته بأناة وسعة صدر”.
وذكر المتحدث أن هذا الشعر “الوحيد الذي يشبهنا في اللحظة الراهنة، شاهد على الخراب لا مشهد منه”، علما أن “الشاعر العربي الآن طَلَلِيّ، وهذه خرائبه اللغوية التي يقف عليها، ويُتَّهَم بصنعها بينما الزمن هو الفاعل…”، فيما هو “يخبر بالحمّى التي تفتك بجسدكم الجمعي، وتحول رؤاه إلى كوابيس”.