جميع الأخبار في مكان واحد

“أنا من تراب”.. يوميات عائد من جحيم “كوفيد 19” (2)

السبت 16 يناير
الأحداث تجري عبر قطائع، والجائحات مُحركها وصانعها؛ إذ تسرع من حركة التاريخ، كونها على رأي أرنولد توينبي تطرح على البشر، تحديا عليهم أن يستجيبوا له، وهذا ما أبان عنه السباق على إنتاج الأمصال واللقاحات، فأصبح اللقاح الذي يتطلب سنوات من المناولة ينتح في ظرف سنة أو أقل، ولاشك أن البشرية ستجترح استجابات أخرى…مع ذلك نتمسك بالرجاء وبالإيمان “فمن ظن أن الكشف موقوف على الأدلة المحررة فقد ضيق رحمة الله الواسعة”، كما نبه الغزالي…
( Lire mon article « Qu’adviendra-t-il le jour d’après ? » publié sur Facebook le 19 mars 2021)

الأحد 17 يناير
مريم، ملاكي الرحيم إذ تأتي لزيارتي كل يوم، غير عابئة بمحاذير العدوى، تحادثني وترفع من معنوياتي… قبل أن تودعني تضع يدها على كتفي وتشرع في ترتيل أدعية…”تقول ابنتي لما رأت طول رحلتي، سِفارك هذا تاركي لا أبا ليا…”، آه بُنيتي لإن خذلني جسدي وأنت تنتشلينني من مخالب الموت، خَجِلتُ من دمعك …

الاثنين 18 يناير
سرى في الصبح صوت الآذان ونجوى الرب تدعو للابتهال “ربي لم أكن بدُعائك شقياً “، فجر جديد، أمل جديد في الحياة… موعد ثابت لقياس الضغط وأخذ عينة الدم وبدء الحصة اليومية من العلاج…أحياناً تكون النهايات منطلقا لبدايات أخرى كما رأى برانشفيك، ولا يستبعد أن يركن العقل الدوغمائي المغرور إلى نجوى ينشد منها الخلاص، فيستبدل العلم بالإيمان على غِرار كنط… “نِعم العبد إنه أوّاب”…

الثلاثاء 19 يناير
… وذكرت رحلة صيد خرجت فيها صحبة المتنبي نصطاد ظبياً قيل لي هو المعنى، إذ اقتفيت أثره حدو النعل بالنعل ضاعت خطاي في الرمال… حتى صاح بي ” إن في الخمر معنى ليس في العنبِ”… ظللت أعدو وألهت إذ تراءى لي وجه الحقيقة يملأ الأفق وصورته تتراقص انعكاسا على لجة الماء، قلت هذا شراب أصيب منه للارتواء، لكنه، كان سراباً في عين جمل عطشان…

الأربعاء 20 يناير
في المساء لاح لي وجه باسكال، جاء يسأل عن حالي ويوصيني بالثبات؛ فالإنسان مثله مثل عود القصب جذره غميس في الطمْي ورأسه شامخ في العلو… كي يفكر على هواه وحسب مجرى الرياح…حتى إذا قسمته ريح عاتية نصفين، نفذت إلى جوفه، فأمْسى ناياً يطلق لحنا شجياً من ألحان الخلود… “أرأيت أنك مثل القصب؟” أقول له ” نعم، أنا من تراب”…

الخميس 21 يناير
ملاحظة فطِنَة لرايت ميلز في كتابه “الخيال السوسيولوجي” عن المعاناة الفردية والرهان الجماعي، بدا لي أنها تنسحب بقوة على ما نحن فيه، بين ما يصيب الفرد من مرض، ما يعتصره من ألم، ويعتريه من قلق وخوف، وبين ما يصير عليه المجتمع من تحولات وما يختبر من رهانات. إلهام ربما وجدنا أصله عند دوركايم في تفسيره للانتحار….

الجمعة 22 يناير
رأيت فيما يرى النائم كأني أعيد قراءة “رسالة الغفران”، ثم بدا وكأنني أشاهدها مسرحية باذخة مشخصة من لدن فرقة الطيب الصديقي… ظللت أبحث طول المسرحية عن أبي الوليد ابن رشد فلا أجده. صرخت بأعلى صوتي في المسرح “أين تخفون حكيم قرطبة؟ هل اختطفتموه؟”…. جاء الطبيب المناوب مسرعاً إثر سماع صياحي لينبهني بأنني أَهدي، ثم تسائل هل ابن رشد ورَدَ في “رسالة الغفران” لأبي العلاء المعري أم في رواية “الجحيم” لدانتي؟…

السبت 23 يناير
بين اليقظة والحلم… أجدني في سُدة درس ابن سينا، إذ يسألنا: “لو أنك خلقتَ دفعةً واحدةً و جُردت من المحسوسات والمعقولات بحيث أعضائك وأطرافك لا سبيل إلى تماسها مع أجزائها وكنت معلقاً في الهواء وقد غفلت عن سائر أعضائك فلا تستطيع إبصارها آنذاك، فإنك بلا شكٍ لا تغفل عن ذاتك نفسها… فهل تثبت وجود ذاتك، فلا تشك في إثباتك لذاته موجوداً” …قلت وكيف لي بذلك سيدي، ألا ترى هذه القيود والأسلاك والمجسات التي تقيدني, ولا أكاد أزْوَرُّ عنها، وأنا مُلزم بقناع الأوكسجين لا أزيله، آكل وأشرب تحته؟ قال هل تذكر Cogito ergo sum ؟ قلت أي نعم، فقال ذاك هو، فاعتبر !…

الأحد 24 يناير
انهار العقل الوضعي؛ فكل يوم يكتشف قصوره عن إدراك كنه هذا المتناهي في الصغر الذي أطاح باعتداد الإنسان ومرغ أنفه في الرغام، وكأنه يعيد لنا السيرة السرمدية الأولى التي تتكشف للذي ألقى السمع وهو شهيد، ومفادها الحكمة القديمة “يضع سره في أضعف خلقه”…يمر المرض بأطوار وأحوال يدخلك في متاهات ومدارات عديدة؛ فبعد صعقة تسونامي الكهربائية التي تهد الكيان وتفرغك من أي طاقة، تصبح وكأنك غلالة فارغة ولها طنين؛ إذا أدركك الله وملائكته ستنقل إلى غرفة الإنعاش والعناية المركزة ليتم انتشالك من موت محقق، وهي مرحلة تقتضي وقتا لنجاعة العلاج ومراقبة تطور حالتك الصحية…وأخيرا مرحلة استعادة اللياقة البدينة بمختلف تمارين الترويض والإعداد لاستئناف الحياة العادية…

الإثنين 25 يناير 2021
غادرت المصحة…ما أدهشني في غمرة هذا الانفساح المنتشي بالحياة الذي اجتاحني هي الألوان المبهرة التي تشع من كل شيئ، ما جعلني أحس باختلاج في الأعين…. كم لبتنا؟ سبعة وتسعون يوما في الحَجر، زد عليها أو أنقص منها قليلا. لا يهم… ثم تسعة عشر يوما على فراش المرض… كان الفضاء في الهرهورة كما في الرباط يوحي بأننا في مدينة أشباح، خلت من سكانها…أو كفيلم مخدوش، بالأبيض والأسود… فها هي ذي الألوان تعود نظارتها زاهية تبشر بالربيع قبل الأوان. إعادة اكتشاف نكهة القهوة بعد طول غياب… للشوكولاطه السوداء طعم الانعتاق… وهي تذوب قفزت لذهني فكرة “الديمومة” عند هنري برجسون…نقاهة كسلى تنتظرني… هناك في الحديقة المقابلة أطفال يمرحون… يصعدون التل المعشوشب ثم يتدحرجون جدلانين… وكما في رواية “الصخب والعنف” لوليام فوكنر، يرون المشهد ينقلب رأساً على عقب، وهم ضاجين بالفرح … يعلنون في صخبهم انتصار الحياة…

(انتهى)

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.