“أنا من تراب”.. يوميات عائد من جحيم “كوفيد 19” (1)
الخميس 7 يناير 2021
زكام موسمي، ينتهي بسعال حاد يدوم عادة شهرا أو أكثر من كل سنة. أمر عادي وطنت النفس عليه ولا مفر منه ؛ فلا طبيب أجاد التشخيص، ولا أدوية نفعت… في البدء كان هذا هو المحتمل. لكن ما لهذا الجسم قد وهن وانهد؟ وما هذا الدوار الملازم؟ … هل الزكام يسبب كل هذا الانهيار… لقطع دابر الشك كان علي القيام برائز كوفيد…
الجمعة 8 يناير
حصل ما كنا نخشاه، وكان لنا نصيب من مرض كورونا، جاءت طبيبة بالليل، جست، قاست، فحصت، ووصفت من الأدوية ما قيل أنه ناجع، جاء منتدب من المختبر، حقن، وخز، وأخذ عينة من الدم. بدأ الأمر يأخذ منعطفا مقلقاً…أشارت الطبية بأخذ صورة للصدر بالسكانير…أهو الأجل قد دنا ؟ أم الموت الذي يتهدد ؟ أيام معدودات مرت على فقدان صديق عزيز….
السبت 9 يناير
بين اليقظة والحلم شاهدت جنازتي… جثتي محلقة في الهواء… و”نسوة يبكين، منهن أمي وابنتاي وزوجتي، وباكية أخرى تهيج البواكيا”… ارتعبت، وهالني ما رأيت، لولا أن أدركني الخيام ” لا تُوحِش النفس بخوف الظنون…” ثم مدني بكأس مترعة حتى خشيت على ثوبي وهو على الجدة لم يزَل، ثم طفق يغدق علي من البشائر القولية ما هدأ من روعي، فأيقنت أنْ ” قد تَساوى في الثَرى راحلٌ غداً وماضٍ من أُلوفِ السِنين”…
الأحد 10 يناير
صدى صوت آت من بعيد: تأدب أيها العبد !! إنك في حضرة الملكوت الأعلى… تختلط علي المواجع بالهلوسات، والذكريات بالهواجس، فأرى وجوها سرعان ما تتحول إلى وجوه أخرى، وأسمع أصواتا وأرى كائنات وشخوصاً عجائبية، وذكريات تستدعي ذكريات أخرى….أراني في حجرة الدرس بالكلية وأستاذنا الجليل نجيب بلدي، يحاضرنا في مفهوم الألوهية عند أفلوطين “الله… يظهر كملك حقيقي لا كملك اتفاقي”، ثم يهوي بكفه على المكتب الحديدي. تردد حجرة الدرس صدى رنين… نيييين…
الاثنين 11 يناير
وقْعُ نتائج التحليل كالحُسام ؛ماضٍ فيَّ حكمها… كما أظهرت صورة السكانير فداحة الإصابة…في المساء جاء طبيب ثاني، صحبة مُمرضيْن، وجيء بقنينات الأوكسيجين، أخذوا في القيام ببعض الإجراءات. إذن حصحص الحق، ودخلنا في معادلة صعبة… داخل القِناع أهمس بما كان يردد المرحوم أبي: “بين الحياة والموت سُمك شعرة…” يسألني المتنبي” أعَلى اللظى أنتْ، أم على الشٍّوى؟”، قلت ” أنا يا أُخَي على التردد، فيهما معاً ربما، أو قُل في المابين”. ثم سأل “ما حالك مع زائرتك بالليل؟”، قلت له ” ليس بها حياء، وقد تأتي بالنهار الكهار”… رأيت فيما يرى النائم أني أسبح في بحر لُجيّ، إذ أشرفت على الغرق والموج عاتٍ، في الصباح أجدني متفصدا من العرق.
الثلاثاء 12 يناير
الإصابة بليغة، نال مني المرض ولا أرى لي راحة، لا في الصحو ولا في المنام، وأي نوم مع هذا السهاد؟ لا أستسيغ لُقمة ولا يلذُّ لي مشرب…لكنني وطنت النفس على المجاهدة، وقلت هي لعبة نردْ، فإما نُخاتل المصير فنحيا، وإما نموت فنعذرَ، عساني بذلك أنعش في النفس بعض الرجاء، ولو أنه غدا سراباً… بدا وكأن المرض يمر بحالات ثلاث: قصف الرعود، صواعق البرق، ثم الأمطار، وجسم آخذ في الانهيار…سجى الليل، ونام جفن السهارى… وكأني ببودلير يضع يده على جبيني ويرتل تعويدة الخشوع :
Sois sage ô ma douleur et tiens-toi plus tranquille.
Tu réclamais le soir; il descend; le voici…
Ma Douleur, donne-moi la main ; viens par ici…
Entends, ma chère, entend la douce nuit qui marche…
الأربعاء 13 يناير
أزرى الفيروس بالعقل الدوغمائي المعتد بمعرفته، فأمسى حائرا يضرب أخماسا في أسداس…بعد محاولة طَبيبيْن إسعافي في المنزل دون جدوى… حسمت مريم ابنتي الأمر، وها أنا مُسجى على كنبة محمولا إلى مصحة بضاحية البيضاء، مع هدير سيارة الإسعاف المسرعة وصوت الإنذار، تتردد في سمعي الآية : “يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فمُلاقيه”… عندما تسمع، وأنت في مدخل المصحة بأن فيروس كورونا شبيه بموجة تسونامي، تعصف بالجسد والكيان، عليك أن تتسلح بالصبر والشجاعة إن أردت أن تظل في عداد الأحياء…
الخميس 14 يناير
تسونامي ! يا لها من استعارة رهيبة، بيد أني حافظت على رباطة الجأش… همس لي ديكارت مواسياً “لا عليك، دع التأملات تأتيك رغدَا، ستدرك أنك موجود، تذكر Cogito ergo sum” أقول له “Je suis mon corps “. يرد علي محتداً “دعك من تُرهات كابريال مارسيل، وانفذ إلى الفكر فثمة منطقة النجاة” …
الجمعة 15 يناير
في العيادة، وأنا ممدد على سرير والبياض المشع يملأ غرفة الإنعاش، وجدتني محاطا بممرضات مقنَّعات متفانيات، يتعهدنني بصنوف من المعالجات، من تنزع عني لباسي، من تلبسنى لباس المستشفى، من توصلني بمجسات وأسلاك وحبال، من تقيس ضغط قلب متعب، من تخزني لأخذ عينة من الدم، من تلقمني جرعات من الدواء، من تضع لي قناع الأوكسيجين … قلت” هو الموت باركته عيون النساء !” وصوت أفلاطون يهمس لي “على الفيلسوف أن يعرف كيف يموت.” وأنا أشبه ما أكون بتلك العجينة التي يلهو بها الأطفال pate à modeler بحكم الحال لا بحكم المقال، “يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم الذي خلقك فسواك فعدلك في أي صورة ما شاء ركبك”…
(يُتبع)