“جيمس بوند” .. شخصية أدبية وسينمائية تتكيف مع التحولات الجيوسياسية
لكل شخص سرّه الخطر، والخمرُ مفتاح لكشف سر السّكران… سر يقول إن الماضي الدموي لا يموت، بل ينبعث ليتسبب في أزمة، ينبعث السر ليشكل المستقبل… تقع مصيبة، فيتم الاستنجاد بالعميل الماهر جيمس بوند 007 الذي تقاعد… صورت هذه الخطاطة السردية مرارا… لطرد الملل في الصيغة الجديدة (“لا وقت للموت” 2021 إخراج كاري فوكوناجا) تم توظيف بضعة بهارات لابتكار نكهة سينمائية. من تلك البهارات وجبة مطاردات بسيارات أسطورية…
تتوالى لقطات في البحر والغابة والمدينة الإيطالية القديمة حيث الكنائس العريقة… فيلم سياحي فيه الطبيعة والتاريخ… مواقع خلابة للمطاردات… يُلقى بسيارات رونج روفر في حُفر جانبية كأنها طماطم… يحزن المتفرج على ضياع ما يحلم به، لكنه يفرح حين يرى بطله يخرج حيا رفقة حبيبته الفاتنة.
من هو المتفرج الذي يستطيع أن يقاوم التماهي مع بطل كهذا؟
إنه دانييل كريغ في الطبعة الخامسة له ضمن سلسلة أفلام جيمس بوند. رجل المهمات الصعبة العابرة للقارات يعود ليقدم خدماته بإخلاص للبشرية… لكن السياق تغير… مدينة إيطالية من عصر النهضة، لندن، هافانا، جزيرة متنازع عليها في أقصى شرق آسيا، هذا سرد مُعولم… يظهر فيه عدو مجنون يذكر بزعيم كوريا الشمالية…
صفر صفر سبعة بطل متفوق جاهز لمواجهة المخاطر، يصد عدوا قاسيا له ملامح شرق آسيوية، هذا مناسب للسياق الجيوسياسي في 2021، بطل أنيق رومانسي شهم شرس… يتحرك دائما رفقة أجمل امرأة وفي أفخم سيارة… خطاطة مألوفة، يبدو أن هذا هو سر النجاح والاستمرارية.
جرى اللعب على الدهشة والمفاجأة واللامتوقع… ذكر متفوق يقود سيارات أجمل من كل النساء، مشاهد رومانسية تحت رصاص كالمطر لكن البطل القوي والبطلة الفاتنة لا يصابون… جيمس بوند فيه لمسة من مبالغات السينما الهندية ومن عاطفيتها، فالجاسوس يرعى طفلة، البشر بحاجة للحنان في زمن الوباء… تم الاشتغال على الصوت بقوة لكي تكون له مصداقية مؤثرة. جرى تشكيل الأجواء بواسطة الديكور والملابس والإكسسوار والمكياج والحوار… كفعل تشكيلي… في كل نواة سردية تناص بصري مع قصة شهيرة (سفينة تغرق) لكي تشجع التشابهات المشاهد على عيش المشهد.
إن الخطاطة السردية تمثيل مبسط ومختصر لمختلف العمليات التحويلية الكبرى في مجرى السرد، وأهم مرحلة فيه هي النهاية، وهذا يناسب أفق تلقي المتفرجين. وهذا مدعوم بالأرقام، فقد صدر خمس وعشرون فيلما خلال ستين سنة عن شخصية واحدة متخيلة شاهدها ملايير الأشخاص. جيمس بوند عنوان يشير لنوع سينمائي شعبي كاسح، لكن نادرة هي المقالات التحليلية عن هذه الظاهرة الفنية “التجارية”.
الأسطورة 007 شخصية روائية وسينمائية. هذا هو الاقتباس الأشهر والأكثر دواما للرواية في السينما لأن المؤلف عرف موضوعه بالمعايشة. كان إيان فليمينغ عميلا سريا في المخابرات البريطانية وحين تقاعد صار روائيا. وقد اقتبس عمله للسينما بينما كانت الحرب الباردة تطمس مجد بريطانيا العظمى بعد هيمنة الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة الأمريكية على العالم. حينها خرج العميل جيمس بوند في 1962 يحمل ولاء لا يفتر للعرش البريطاني… لكي يحارب الشر الذي يتهدد العالم في فيلم “الدكتور نو”، خرج البطل القوي الوسيم الذكي الماهر يبحث عن جزيرة غامضة يسيطر عليها رجل شرير يدعى الدكتور نو وهو شرق آسيوي…
يعمل التحقيق البوليسي على ضبط المجرم بعد وقوع الجريمة، بينما يشرع الجاسوس عمله قبل حصول الجريمة، يطارد الجاسوس المتهم لمنعه من تنفيذ الجريمة، يمنعه في اللحظة المناسبة فيقضي عليه، “يحيّده” بلغة المخابرات المعقمة، وهذا عمل أمني استباقي.
بعد ستين سنة من ظهور الطبعة الأولى للفيلم جاء الجمهور هنا في كازابلانكا بكثافة لأنه يعرف أن جيمس بوند ماهر في عمله. الجمهور وفيّ له وواثق من مستواه وينتظر منه ان يقدم جديدا.
جيمس بوند 007 في عهد الإنترنيت. ماذا بقي للجاسوس البشري من سر لكشفه؟
كان الجاسوس يكمن في سيارة ليتلصص على هدفه فيطارده ليكشف أسراره…
الجاسوسية هي متعة التلصص على الغير سواء كان فردا أو دولة. تكرر هذا المشهد في أفلام كثيرة: رجل أنيق يجلس في مقهى على الرصيف يقرأ جريدة ثم يتضح أن الجريدة مثقوبة وآنه يتلصص من ذلك الثقب على هدف ما… تبدد هذا الكليشيه حاليا.
لقد جعل غوغل العالم مكشوفا، صار التجسس على الهواتف المحمولة بفضل برمجيات سرية مثل بيغازوس يتجاوز تعقيدات روايات الجاسوسية. ما قيمة جاسوس في عصر تنتشر فيه الكاميرات في كل مكان؟
جاسوس جلالة الملكة يغير ولاءه ليخدم المخابرات الأمريكية… انكشف تنافس بين مخابرات الحلفاء… انتهت الحرب الباردة التي كان للجاسوسية في عهدها مضمون نضالي ضد العدو السوفياتي… صار الأفق أوسع الأن، لم يعد 007 يقاتل من أجل الدولة القومية أو الحلف الأطلسي…
صار الصراع غامضا، ولم تعد الخطوط الفاصلة بين الأشرار والأخيار واضحة… تم التعبير عن التحول في الجنريك المستلهم من دوران الآلة في فيلم “الأزمنة الحديثة” 1936 لشارلي شابلن… تغير محتوى الصراع بين الدول، صارت صحة البشر هي موضوع النزاعات… من يتحكم في الحمض النووي للبشر سيسيطر في العالم… هكذا يتجاوز الفيلم أجواء الحرب الباردة ليلتقط اللحظة التاريخية التي صارت فيها صحة البشر أهم رأسمال… يحتمل أن تتسرب فيروسات الدمار الشامل من مختبر علمي وليس في قاعدة عسكرية… أسلحة جديدة بيولوجية يمكن أن تَستعْبِد البشر وهذا يثير غيظ الجاسوس الذي يؤمن بالحرية الفردية وهي البقرة المقدسة بالنسبة للحداثة الغربية، في سبيلها يقاتل 007 بإخلاص، ويقاتل كل البشر. يقاتل من أجل الإنسانية والحبيبة… العميل صفر صفر أي له حق القتل، ينتصر دون أن يحتفل.
يقوم الجاسوس بعمل استباقي، لينقذ العالم من أوليغارشية مافيوزية لها نسخة في كل مكان… يلتفت جيمس بوند إلى سياق إفريقيا، يناسب فيلم وفضاء “الكازينو الملكي” 2006 النساء الفاتنات، هناك حيث يُصرّف عرق الشعوب الفقيرة دولارا على طاولات مخملية. في طبعة 2011 كان جيمس بوند راعي بقر، في طبعة 2021 تبدد جيمس بوند تمهيدا للبطلة التي ستصير لاحقا 007 في الطبعة الموالية للفيلم.
شاخ البطل وآن الأوان لاستبداله… انتهت ملحمة وتراجيديا جيمس بوند الرجل… القاعة تصفق. عرش النجومية جاهز لبطلة الطبعة الموالية من الفيلم 007 التي يحتمل أن تتأمرك.