المحادثات الروسية الأمريكية في سويسرا تحيي ذكريات الحرب الباردة
تستقبل جنيف، المدينة المحايدة التي كثيرا ما استضافت مفاوضات في فترة الحرب الباردة، كبار المسؤولين الروس والأميركيين لمناقشة مسائل الصواريخ والأسلحة النووية ومناطق النفوذ في وقت يُخشى من تفجر نزاع محتمل.
وتكثر الإشارات في العاصمة السويسرية إلى الصراعات على النفوذ بين الشرق والغرب في القرن العشرين، ما يعيد إلى الأذهان الحقبة المتوترة ما بين الحرب العالمية الثانية وانهيار الاتحاد السوفياتي في 1991، عندما بدا أن العالم يواجه مصيرا مجهولا.
وبدأ المعسكران المتنافسان في طرح المقارنات علنا، حتى وإن كان المراقبون يلاحظون اختلافات بارزة.
وقال نائب السفير الروسي لدى الأمم المتحدة ديمتري بوليانسكي، الشهر الماضي، إن “ما نشهده اليوم هو نوع من نسخة جديدة من الحرب الباردة؛ حرب باردة مطورة”، محملا المسؤولية للولايات المتحدة.
في برلين، المدينة التي كان قسمها ذات يوم جدار أصبح رمزا للحرب الباردة، حذر وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، الخميس، من أن أي غزو روسي لأوكرانيا، وهو ما تخشى دول الغرب حصوله في أي لحظة، من شأنه أن يعيد العالم إلى فترة “كانت فيها هذه القارة وهذه المدينة مقسومتين إلى نصفين … وشبح حرب شاملة يلقي بثقله على الجميع”.
سياسة الهاوية
أوجه الشبه صارخة؛ أولا الشق الجغرافي متطابق، فموسكو تقابل دول الغرب، وعسكريا أيضا يبرز مرة أخرى خطر تحول نزاع محلي تخوضه قوات بالوكالة إلى مواجهة أوسع نطاقا ومباشرة أكثر بين قوى عظمى.
وكما في ذروة الحرب الباردة، حشدت القوتان حلفاءهما وتدافعان عن مناطق نفوذهما في عرض تقليدي للواقعية السياسية.
وإذ يشتبه الأميركيون في أن الروس يرغبون في استخدام بيلاروس قاعدة خلفية لأي هجوم محتمل على أوكرانيا، فإن حلف شمال الأطلسي (ناتو)، الذي حاولت الولايات المتحدة مؤخرا تصويبه باتجاه الصين، قد أعاد اكتشاف سبب وجوده منذ تأسيسه عام 1949، وهو بالتحديد الدفاع عن أوروبا غير السوفياتية من هجوم محتمل تشنه موسكو.
والرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ضابط الاستخبارات السوفياتية السابق (كي جي بي)، يمارس “سياسة حافة هاوية على غرار الحرب الباردة، والتهديد والترهيب بهدف تعزيز صورة بوتين كرجل قوي”، حسب ما قالت الاستاذة في جامعة كورنل سارة كريبس لوكالة فرانس برس.
ويرخي مكان إجراء المحادثات إلى العبارات المستخدمة والمسائل المطروحة للنقاش، بطابع عتيق على مفاوضات الجانبين المتعلقة بنشر الصواريخ والجنود على أبواب الكتلة المضادة.
تراجع الإيديولوجيا
جون بولتون، الذي تولى منصب مستشار الأمن القومي للرئيس السابق دونالد ترامب، أشار إلى أن المواجهة المباشرة الحالية تفتقر إلى المكون الإيديولوجي للشيوعية مقابل الديمقراطية الليبرالية الذي “شكل إطار الحرب الباردة”.
وقال: “ما نراه الآن هو نوع من مواجهة تقليدية لسياسات القوة في القرن التاسع عشر، ولا أعتقد أنها تحتوي على إيديولوجية”.
وأضاف: “المسألة المباشرة التي نواجهها لا تتعلق فقط بأوكرانيا، بل بمحاولة بوتين إما إعادة تأكيد السيطرة الروسية على الاتحاد السوفياتي السابق، أو على أقل تقدير فرض هيمنة روسية عليه”.
وبالنسبة لبولتون، فإن الأزمة الحالية هي نتيجة نهائية لابتعاد طويل ناتج عن عدم بصيرة قادة الغرب والمفكرين الذين أسكتهم في التسعينات وهم بناء عالم من دون نزاع كبير ولم يدركوا أن موسكو لم تتقبل حقا تفكك إمبراطوريتها. وهذا ما أشار إليه بوتين في 2005 بوصفه “الكارثة الكبرى” في القرن الأخير.
وقال بولتن إن “بوتين صبور وسريع الحركة”، مضيفا أن العملية “لم تكن سريعة تماما، لكنها كانت متسقة”، في إشارة إلى التدخل العسكري الروسي في جورجيا عام 2008 وضم شبه جزيرة القرم الأوكرانية في 2014.
وإذا اندلعت أزمة اليوم، سيكون من أسبابها أيضا الانسحاب الجزئي للولايات المتحدة من الساحة الدولية، فالرئيس جو بايدن قال بوضوح إنه لا يعتزم الزج بالولايات المتحدة مباشرة في نزاع جديد.
ورأى بولتون أنه “من الواضح أن بوتين يعتقد أن روسيا مقدر لها أن تكون قوة عظمى”، وأن الزعيم الروسي يمقت على الأرجح أن بكين حلت مكان روسيا في لعب دور المنافس الأول لواشنطن.
وسواء كنا في حرب باردة أم لا، فإن الرهانات الاستراتيجية بالكاد تغيرت. آنذاك “كانت هناك أسلحة نووية-الكثير منها-لكن الردع نجح. لم يكن أي من الجانبين يريد إشعال حرب نووية لأن لا أحد سيفوز بتلك الحرب”، وفق كريبس. و”القليل تغير بشأن تلك الديناميكية بخلاف الأشخاص المعنيين، لكن الشيء الأكثر أهمية، أي الحسابات الاستراتيجية، ما زالت هي نفسها”.
وحذرت كريبس قائلة: “سنرى هذه الأنواع من الأزمات تأتي وتذهب” لكن في المستقبل، وكما في فترة الحرب الباردة في الماضي، فإن “الردع سيكبح الإجراءات التصعيدية الكبرى”.