بنعقية .. الصوفية والأمازيغية
خطف المنون الغادر، يوم 19 يناير 2019، روحَ العلّامة الدكتور حسن بنعقية، أستاذ الأدب الفرنسي واللغة الأمازيغية بالكلية متعددة التخصصات بالناظور. إلى جانب مهنته الرسمية هذه، كان حسن (هكذا كنت أناديه) باحثا لا يتعب، وكاتبا شرسا لا يكلّ ولا يستريح، كما قال عنه الأستاذ ميمون أمسبريذ في التعزية التي بعث بها إلي عقب رحيل فقيدنا عن الدنيا. إذا عرفنا أنه ألّف أزيد من 20 كتابا، ضمنها كتب ضخمة تتكوّن إحداها من 670 صفحة من الحجم الكبير، سنعرف أنه كان بالفعل لا يتعب ولا يكلّ ولا يستريح.
رجل فعل وممارسة:
كان لقائي الأول مع حسن سنة 1996 عندما دُعيت من طرف جمعية ثقافية ببلدة أيث نصار (بني نصار)، التي ينتمي إليها لحضور عرض حول الشعر الأمازيغي بمنطقة الريف يلقيه هو نفسه، والذي سيصبح منذ هذا اللقاء صديقا ورفيقا إلى أن غادرنا إلى الأبد. كان أول ما أثار انتباهي وإعجابي في نفس الوقت، وبشكل قوي لا يُقاوم، في محاضرة الأستاذ حسن هو أنه ألقاها بالأمازيغية، وحول موضوع لا تتوفّر فيه الأمازيغية بعدُ على المفاهيم والمصطلحات النقدية والتحليلية. لماذا أثار ذلك انتباهي وإعجابي بذلك الشكل القوي؟ لأنه لم يسبق لي، قبل هذه المحاضرة، أن استمعت إلى عرض أكاديمي وتحليل منهجي علمي بالأمازيغية. فقبل هذا التاريخ، كل المحاضرين كانوا، أثناء ندوات ثقافية تنظمها جمعيات أمازيغية حول قضايا تهم الشأن الأمازيغي، يستعملون، عندما يتعلّق الأمر بموضوعات أكاديمية، العربية أو الفرنسية أو الإسبانية…، وليس الأمازيغية التي قد تحضر فقط في طرح الأسئلة عند فتح باب المناقشة. هذا شيء جديد وتقدّم مهم. فقلت في نفسي: “رغم أننا، أنا وأبناء جيلي من رواد الحركة الأمازيغية، متقدّمون عُمريا على حسن الذي يصغرنا بحولي خمسة عشر سنة، إلا أنه متقدّم علينا “أمازيغيا” بنفس القدر من السنين أو أكثر. ذلك أن ما كنا نحن نطمح إلى الوصول إليه، ألا وهو أن تكون الأمازيغية لغة لنقل المعرفة ونشرها وتداولها، يمارسها هو منذ الآن”.
الانطباع الأول الذي خلقته لدي تلك المحاضرة حول حسن، هو أنه يفضّل الفعل والممارسة على الانتظار إلى أن تجتمع الشروط المطلوبة لذلك الفعل والممارسة. وسألمس، طيلة العِشرة التي جمعتني به، أن هذا التفضيل لديه للفعل والممارسة هو سمة ملازمة له في تعاطيه مع القضية الأمازيغية. فكان يؤكّد دائما أنه ليس لأن مطالبنا، بتدريس الدولة للأمازيغية للارتقاء بها إلى مستوى الاستعمال الكتابي وجعلها لغة علم ومعرفة، هي مطالب مشروعة وعادلة، فعلينا أن نبقى مكتوفي الأيدي في انتظار أن تحقّق الدولة تلك المطالب مع مواصلتنا النضال من أجلها. بل علينا أن نبدأ بالاستعمال العملي للأمازيغية وكتابتها، في إطار ما هو متاح، رغم ما قد يرافق ذلك من نواقص وأخطاء وغياب قراء النصوص الأمازيغية باعتبارها لغة غير مدرّسة. فإذا كان المسؤولون يبرّرون التعثّر الذي يعرفه تدريس الأمازيغية بعدم توفّر الشروط الضرورية لذلك، من مالية وتربوية ولسانية (تعدد الأمازيغيات)…، فإن عدم البدء باستعمال الأمازيغية، حسب ما هو متاح وقبل أن تتوفّر المدرسة، يفاقم من عدم توفر تلك الشروط الذي (عدم) تتعلّل به الدولة، مما يعطي لذلك التعلّل نوعا من المصداقية. من جهة أخرى، إذا كنا نقول، كما يوضّح حسن، بأن الأمازيغية لغة صالحة للاستعمال الكتابي، فعلينا أن نقدّم الدليل على ذلك. وليس هناك من دليل خارج استعمالها الكتابي نفسه.
غزارة الكتابة بشهرية “تاويزا”:
لما فاتحته، بعد هذا اللقاء الأول، بشأن مشروع إنشاء شهرية خاصة بالأمازيغية اخترت لها عنوان “تاويزا”، أجاب بأنه مستعد للكتابة في كل عدد، حتى ولو كانت ستصدر يوميا أو أسبوعيا، مبيّنا أنه يتوفّر على مجموعة من الدراسات حول الأمازيغية لم ينشرها بعدُ، وسيكون مكانها المناسب هو “تاويزا”. وذلك ما نفّذه بالكامل الأستاذ حسن، إذ ظل مواظبا على النشر في كل عدد من “تاويزا” إلى أن توقّفت عن الصدور في غشت 2012. وإذا كان قراء “تاويزا” يعرفونني كمؤسس ومدير لهذا المنبر، فإن الأستاذ حسن كان هو المؤسس الثاني والمدير الثاني. وإذا قارنا بين حجم ما نشرته أنا وما نشره حسن بـ”تاويزا”، فالأكيد أن نصوصه تفوق حجما وعددا ما نشرته أنا بنفس الشهرية.
وما كان ينشره حسن بـ”تاويزا” لم يكن مجرد مقالات رأي، بل كانت دراسات معمّقة، وبتحليل يقوّض البديهيات الكاذبة حول موضوعات، مثل: اللغة، الهوية، الثقافة، الوحدة الوطنية، الوطنية، التعريب، الاستعمار، الظهير البربري، الميثاق الوطني للتربية والتكوين (كان حديث الساعة عند صدوره في 1999)، تدريس الأمازيغية… إذا كانت بعض موضوعات كتاباته معروفة وسبق أن تطرّق إليها كتاب سابقون، إلا أن الكاتب حسن يتناول هذه الموضوعات عبر تحليل جديد غير مسبوق، يقوّض به “الحقائق” المعروفة حول ذلك الموضوع. وأعطي هنا مثال دراسته حول ليوطي Lyautey، الحاكم الأول للمغرب بعد معاهدة الحماية في 1912. فهذه الشخصية الاستعمارية معروفة، كعلم في رأسه نار، لكثرة ما كُتب ونُشر حولها. لكن الأستاذ حسن سيكشف لنا، استنادا إلى وثائق ومراسلات وشهادات لمقرّبين منه، عن جانب غير معروف من “ليوطي”، وهو المتعلّق باختياراته الحميمية (الجنسية) الشاذة. وليس هذا هو الجديد الذي يهمنا في تحليل الأستاذ حسن لشخصية “ليوطي”، وإنما تأثير هذه الاختيارات “الشاذة” على اختياراته السياسية التي طبّقها بالمغرب. هكذا يقوّض الأستاذ بنعقية، في النهاية، الصورة التي تكوّنت لدينا عن “ليوطي”، عندما نعرف أنه كان “غير سوي” في سلوكه الجنسي، مع ما كان لذلك من أثر بارز في تدبيره لسياسة الحماية بالمغرب. وهذا ما يفعله دائما حسن في كتاباته عندما يفاجئنا بحقائق مضادة تقوّض ما ألفناه من حقائق سابقة حول الموضوع المعني.
خلق مفاهيم جديدة كأدوات لتحليل جديد:
ولأنه كان يكتب بأفكار جديدة حول قضايا قد تكون قديمة، فقد كان يخلق باستمرار مفاهيم جديدة كأدوات جديدة لتحليل جديد. هكذا خلق واستعمل مصطلح “احتقار الذات” haine de soi ونقيضه “الأصلي” le propre. يعني الأول قمة الاستلاب الهوياتي الذي تعرّض له الأمازيغ، الذين تحوّلوا، عبر عملية التعريب، إلى ألدّ أعداء الأمازيغية بعد أن تنازلوا عنها وأصبحوا يرفضونها ويحاربونها. أما المفهوم الثاني، “الأصلي”، فيعني به الأستاذ حسن، كما يدل على ذلك مدلوله اللغوي، الهوية الأصلية، المحلية الإفريقية، التي هي الأمازيغية، الهوية الحقيقية للمغاربة ولكل شعوب (دول) شمال إفريقيا.
ولأن الأستاذ بنعقية كان ذا وعي حاد بنتائج غياب ذاكرة كتابية لدى الأمازيغ، فقد ابتكر واستعمل مصطلح “الأثر المكتوب” la trace écrite الذي يعتبره شرطا لوجود ذاكرة كتابية. هذا الغياب للكتابة لدى الأمازيغ هو ما جعلهم يبقون خارج التاريخ، بالنظر، كما شرح ذلك في العديد من كتاباته، إلى أن الكتابة هي المفتاح الذي يفتح باب التاريخ لشعب ما، ليحجز به مقعدا له. هذا الغياب للأثر المكتوب عند الأمازيغ، أي غياب الاستعمال الكتابي للغة، جعل هذه اللغة تبقى “جسدية”، أي حبيسة الجسد الذي تحتاج إلى أعضائه (اللسان مثلا…) كي توجد وتحيا. هكذا بقيت اللغة الأمازيغية لصيقة باللسان كعضو جسدي للكلام، وبالغناء والرقص التي هي أنشطة تمارسها أعضاء من الجسد. وينتج عن ذلك أن هذا الجسد، إذا مات واختفى أو استعمل لغة أخرى، ماتت واختفت اللغة الأمازيغية. هذا ما يفسّر لماذا كتب الأستاذ بنعقية كثيرا عن مسألة تدريس الأمازيغية، لأن هذا التدريس شرط واقف للانتقال بها إلى مستوى الاستعمال الكتابي حتى تتحرّر من الجسد، وتصبح لغة قادرة على إعادة إنتاج نفسها بالكتابة دون حاجة إلى وساطة الجسد، التي ظلت لقرون تحيا به وحده في غياب الكتابة.
وإذا كانت اللجنة الملكية المكلّفة، في 2001، باختيار أعضاء المجلس الإداري للمعهد الملكي للأمازيغية لاقتراح تعيينهم على الملك، قد اختارت من بين هؤلاء الأستاذ حسن بنعقية، فذلك لأن مسؤولي هذه اللجنة قد تعرّفوا عليه من خلال كتاباته بشهرية “تاويزا”، وخصوصا المنتمين منهم إلى الحركة الأمازيغية، مثل الأستاذ محمد شفيق والأستاذ حسن أوريد، اللذيْن رأوا فيه مفكرا كفئا وعنصرا قادرا على الإسهام في إعداد مشاريع تنمية الأمازيغية ورد الاعتبار لها.
إذا لم تكن كتابات الأستاذ بنعقية، كما قلت، مجرد مقالات رأي، بل دراسات وتحليلات أكاديمية عميقة، فذلك لأنه كان يكتبها، بخصوص قضية من القضايا ذات الصلة بالأمازيغية، كأجزاء أو فصول من كتاب. ولهذا شكّلت منشوراته بـ”تاويزا” مادة لمجموعة من الكتب التي سينشرها في ما بعد، مثل كتابه الموسوعي الضخم (676 صفحة من الحجم الكبير) الذي طبعته دار النشر “لارماطون” الفرنسية L’Harmattan في 2016. مجموع الدراسات التي يضمّها الكتاب، بعد أن راجعها ونقّحها المؤلف السيد بنعقية، سبق أن نشرها بـ”تاويزا”. لقد كتب أزيد من عشرين كتابا تتوزّع ما بين دراسات، روايات، مسرح…، مع استعمال اللغة الفرنسية أو الأمازيغية في كتبه الأخيرة، الروائية منها والمسرحية. وكتب كذلك دراسات معجمية بالإسبانية والكطالانية عندما اشتغل، لمدة قصيرة، أستاذا بمدينة برشلونة.
إتقان استثنائي للغات الحية:
إذا كان الأستاذ بنعقية قد كتب كثيرا، رغم عمره القصير نسبيا، ككاتب شرس، كما قال عنه الكاتب أمسبريذ، فذلك لأنه كان يقرأ كثيرا، بل كان آلة للقراءة. وقد ساعده على ذلك إتقانه، فضلا عن الأمازيغية والدارجة والعربية، للإنجليزية والفرنسية والإسبانية والكطالانية. فهو حاصل على باكالوريا إنجليزية، التي كانت تُسمّى بالمغرب baccalauréat type anglais في النظام القديم، ثم إجازة في الأدب الفرنسي من كلية وجدة، وبعدها دكتورة وطنية بفرنسا في نفس التخصّص، ثم دكتورة الدولة في الأدب المقارن بجامعة وجدة حيث كان يشتغل أستاذا. أما الإسبانية، فلكونه كان يسكن على بعد بضع عشرات الأمتار من مليلية المحتلة، فقد تعلّمها وأصبح يتقنها نطقا وكتابة، ويستعملها في القراءة والبحث. وكذلك تعلّم الكاطالونية أثناء إقامته ببرشلونية عاصمة الكطلان. فعندما نستعرض لائحة الببليوجرافيا التي يحيل عليها في دراساته وكتبه، سنلاحظ أنه يعتمد أساسا على المراجع الإنجليزية أكثر من الفرنسية. بل حتى رسالة دكتورة الدولة في الأدب الفرنسي كتبها حول روائي يكتب بالإنجليزية، هو “جيمس جويس” James Joyce الإيرلندي، ومقارنته ببعض الروائيين الفرنسيين. وأتذكّر أن أحد أعضاء لجنة المناقشة أشار في مداخلته أن أكثر المصادر التي اعتمدها الباحث هي إنجليزية، فضلا عن الإسبانية والكطالانية، مع اعترافه أنه لا يقرأ أيا من هذه اللغات الثلاث. أما المشرف الثاني codirecteur على رسالة البحث، وهو إسباني يدرّس في العديد من الجامعات العالمية بالإنجليزية والفرنسية والإسبانية، فقد أوضح في كلمته، منتقدا ضمنيا ملاحظات أحد أعضاء اللجنة المغاربة، بأنه أشرف، طيلة حياته الجامعية، على تأطير العشرات من الرسائل الجامعية. لكنه لا يتذكّر من كل هذا العدد إلا أجودها، وأن بحث السيد بنعقية سيتذكّره ما بقي حيا كأحد أحسن الرسائل التي أشرف على تأطيرها.
علاقة صوفية بالأمازيغية:
لقد قلت إن ما يميّز الأستاذ بنعقية هو تفضيله للفعل والممارسة. وهذا ما طبّقه بخصوص ما كتب عن الأمازيغية والأمازيغيين. فهو لم يكتف، في كتابه “تاريخ الفكر بشمال إفريقيا”، بجمع تراث الكتاب الأمازيغيين بشمال إفريقيا في العصر القديم والقرون الوسطى، الذين أبدعوا وألفوا بالإغريقية واللاتينية، بل جعل من مضامين هذا الكتاب مادة دراسية discipline كان يدرّسها بشعبة الدراسات الأمازيغية بجامعة وجدة والناظور. ونفس الشيء فعله بخصوص دعوته إلى الانتقال من انتظار توفير المدرسة للكتابة بالأمازيغية إلى ممارسة هذه الكتابة عمليا، حسب ما هو متوفّر ومتاح. فأصدر، في 2020، وبالحرف اللاتيني، رواية مطوّلة بالأمازيغية بعنوان: “jar ticri d wttu” (بين السير والسقوط)، ومسرحيتين بعنوان: “amuddu n hullic” (رحلة حولّيش) و “tagharect d tebqect” (العصا وصحن الفخار). ويعرف الذين سبق لهم أن أنتجوا نصوصا بالأمازيغية كم هو صعب الكتابة بلغة لم تتعلّم في المدرسة. وتجدر الإشارة إلى أنه كان الأول بمطقة الريف الذي أدخل الكتابة بالحرف اللاتيني (تيفيناغ لم تكن مطروحة أصلا للكتابة قبل 2003) عندما قام بمراجعة عدد من الدواوين الشعرية التي كانت قد صدرت بالحرف العربي، مع غياب لقواعد الكتابة الإملائية الصحيحة. لقد صحّح هذه الدواوين وأعاد، بطلب من أصحابها، كتابتها بالحرف اللاتيني، مع احترام تام للقواعد النحوية والإملائية للأمازيغية، مثل ديوان المرحوم أحمد الزياني، وكريم كنوف، وفاظمة الورياشي ورواية لسميرة المراقي، وآخرين غيرهم. وقد نقل إلى الأمازيغية أرضية “الاختيار الأمازيغي” المنشورة على موقع “تاويزا”. كل هذا التركيز على الفعل والممارسة، كما سبق أن كتبت، وهذه الكتابة الغزيرة حول الأمازيغية، يكشفان عن علاقة خاصة كانت تجمع كاتبنا بنعقية بالأمازيغية. هذه العلاقة تتجاوز مستوى الوفاء والإخلاص الواجبين على كل مغربي إزاء هويته الأمازيغية، وتتجاوز مستوى العلاقة العاطفية والوجدانية التي تربط كل إنسان بلغته الأم، لتصبح عند بنعقية علاقة صوفية، كما قال عنه الأستاذ أمسبريذ في تعزيته المشار إليها سابقا. فقد كان في علاقته بالأمازيغية “صوفيا” يصبو إلى “الاتحاد” معها و”الفناء” فيها، حسب اللغة التي يعبّر بها المتصوفة عن حالهم ومقامهم. لقد نجح الكاتب أمسبريذ في تلخيص حال ومقام الأستاذ بنعقية في علاقته بالأمازيغية عندما وصفه بـ”صوفي الأمازيغية” un mystique de la chose amazighe، وهو ما اخترته عنوانا لهذا المقال، لأنه يفي بالغرض والمعنى والحقيقة كاملة.
الجمع بين البحث العلمي والنضال الإيديولوجي:
لم يكن الأستاذ بنعقية، كما هو واضح من كتاباته ومواقفه وممارساته، يكتفي بالنضال الإيديولوجي الذي يذكّر، في كل مناسبة، بالحيف الذي تعيشه الأمازيغية لأسباب سياسية، ومطالبة الدولة باتخاذ قرار سياسي لإنصافها ورد الاعتبار لها. بل كان يجمع بين هذا النضال التقليدي والبحث العلمي لفائدة الأمازيغية، بخصوص فروعها اللهجية، ومعجمها، ونحوها، وكيفية توحيدها ومعيرتها…، وتاريخ الأمازيغيين وحضارتهم، وتنظيماتهم الاجتماعية والسياسية، وجمع وتدوين تراثهم الثقافي والشفوي… فإذا أخذنا مثلا كتبا مثل: «les envers de l’amazighité» ، أو «l’enseignement de tamazight»، أو «l’amazighité en questions»…، فسنلاحظ أنها ذات حمولة سياسية وإيديولوجية نقدية، رغم أنها تتجاوز الطرح التقليدي للمطالب الأمازيغية لدى الحركة الأمازيغية. ونفس الحمولة قد نجدها تقريبا في كتاباته الروائية والمسرحية، سواء المكتوبة بالفرنسية أو بالأمازيغية. لكن إذا أخذنا كتبا مثل: «histoire de la pensée nord-africaine»، أو «la littérature de voyage en Afrique du nord»، أو «la littérature rifaine, de la tradition orale à aujourd’hui»، أو «la traduction poétique amazighe»، أو «tutlayt tarifit, grammatica y lexic» écrit en collaboration et en catalan، أو «distique de la poésie rifaine»، أو Amawl arifi n usughel» (معجم الترجمة من الريفية إلى الفرنسية ومن الفرنسية إلى الريفية)…، فسنجد أنفسنا أمام مضامين علمية تقوم على بحث ودراسة، سواء في ما يتصل بالفكر الأمازيغي القديم، أو في ما يتعلق بصورة الأمازيغيين عند الأوربيين، قديما وحديثا، أو في ما يخص الترجمة، أو الأدب بمنطقة الريف، أو أمازيغية الريف… فهذه الكتب هي ثمرة دراسات علمية وبحثية، بعيدة عن الجدال الإيديولوجي والسياسي، دون الجزم أن الجانب الإيديولوجي والسياسي غائب نهائيا من هذه الدراسات، أو أن الجانب العلمي غائب نهائيا من الصنف الأول من المؤلفات ذات الحمولة الإيديولوجية السياسية البارزة. ففي مجال العلوم الإنسانية، وخصوصا في قضايا اللغة والهوية والتاريخ والثقافة…، يصعب أن لا تحضر الإيديولوجيا، بدرجات متفاوتة، مهما التزم الباحث بالمنهج العلمي، لأنه أمام ظواهر لها ارتباط بالوعي والإرادة والاختيار، وليس أمام مادة جامدة كما في علم الفيزياء.
ومثال آخر على أن الأستاذ بنعقية كان يولي اهماما خاصا بالدراسة العلمية للغة الأمازيغية، بجانب النضال من أجل الاعتراف بها ورد الاعتراف لها، هو أنني عندما التقيت به لأول مرة في 1996، وجدته يتوفّر على كل المعاجم الأمازيغية التي صدرت منذ القرن التاسع عشر، سواء العامة منها أو الخاصة، في الوقت الذي لم أكن أملك، أنا الذي أكبره سنا، سوى خمسة من هذه المعاجم. وقد أمدني مشكورا بنسخ مصوّرة لجميع تلك المعاجم، بما فيها معجم شارل دوفوكو Charles de foucauld الضخم، والذي لم يكن متوفرا بعدُ على شبكة الأنترنيت.
وفي الكلية متعددة التخصصات حيث كان يدرّس، لم يألُ جهدا من أجل إنشاء مسلك للدراسات الأمازيغية، وهو ما استجابت له وزارة التعليم العالي. بعد ذلك واصل جهوده من أجل أن يكون هذا المسلك شعبة قائمة بذاتها تتوفر على “ماستر” مستقل، وهو ما تحقق مع الدخول الجامعي الحالي 2021 ـ 2022. وقد أبى إلا أن يشرف شخصيا على افتتاح هذا “الماستر” الأمازيغي يوم 19 نونبر 2021 رغم أن حالته الصحية كانت سيئة جدا. وقد ألحّ على أن ألقي الدرس الافتتاحي لانطلاق الدراسة بهذا “الماستر” حيث تناولت موضوع: “اختيار تيفيناغ بين الدافع الإيديولوجي والاعتبار العلمي”. ورغم أن هذا التكليف بإلقاء درس افتتاحي يمثل مسؤولية جسيمة، إلا أنه تشريف أعتز به. وقد كان افتتاحه لهذه الشعبة الجديدة الخاصة بالأمازيغية أخر نشاط جامعي مهني يقوم به قبل أن يودّعنا الوداع الأخير.
لنواصل الأخذ منه، لا أن نعطيه:
هكذا كان الأستاذ بنعقية: مفكّر فذّ، وكاتب موهوب، ومثقف موسوعي، وباحث مجدّد، يدافع بصوفية عن الأمازيغية، لغة وثقافة وهوية وتاريخا. كرّس حياته المهنية والجامعية لخدمتها والنضال، علميا وإيديولوجيا، من أجل تنميتها ورد الاعتبار لها. مما يجعل منه مرجعا في النضال وفي البحث العلمي. إنه مفخرة للمغرب، وللأمازيغية، وللريف، ولبلدته آيث نصار، رغم أن الكثيرين لا يعرفونه وربما لم يسبق لهم أن سمعوا عنه. فقد كان ذا تواضع أسطوري لا يحب التقريظ والمديح في حقه، ولا يقبل الأضواء والشهرة. لكنه كان في الحقيقة، هو نفسه، ضوءا ينير ويشعّ. هذه الإنارة وهذا الإشعاع هما إنتاجاته وكتاباته وأفكاره و”صوفيته” الأمازيغية. اليوم، إذا كان قد رحل عنا ماديا، إلا أنه سيبقى حاضرا بيننا بأفكاره وكتاباته وإنتاجاته الغزيرة التي دافع فيها عن الأمازيغية علميا وإيديولوجيا، كما كتبت. وهو ما يجعل منه حيا لا يموت وحاضرا لا يغيب ولا يختفي. لقد أعطى الكثير للأمازيغية في وقت قصير نسبيا. وإذا أردنا أن نكافئه على ما ترك وأعطى لنا، فليسن بعطاء مماثل نعوّض لع عطاءه، بل بمواصلة الأخذ منه وتلقّي مزيد من العطاء منه، وذلك باستلهام أفكاره وقراءة كتبه والاقتداء بسيرته العلمية والنضالية، عملا بما كتبه جبران خليل جبران بمناسبة وفاة الكاتب جورجي زيدان عندما قال: إذا أردتم أن تكرموا الرجل العظيم عن كرمه وعطائه، بعد وفاته، فخذوا منه ولا تعطوه.