معضلات النظام التربوي المغربي
إن القضية التربوية ببلادنا، باعتراف الجميع، تربويين كانوا أو مفكرين أو سياسيين، هي القضية المصيرية الأكثر تعقيدا والأكثر تشعبا (الخطاب الملكي 20 غشت 2013 بمناسبة ثورة الملك والشعب على سبيل المثال لا الحصر)، نظرا لارتباطها بأبعاد تاريخية وثقافية وسياسية واقتصادية متشابكة، وهذا التعقيد والارتباك هو الذي يفرز أزمة تبرز ملامحها من خلال مظاهر ومؤشرات عديدة منها:
– لعب المنظومة التربوية والقيمية ببلادنا على حبلي الأصالة والمعاصرة، فلا هي بتربية “محافظة” على مقومات التراث الماضوي، ولا هي بتربية “حداثية” ترتكز على مفاهيم العقل والحرية والتقدم. لذلك فهي منظومة تنتج عموما “إنسانا منافقا غير متصالح مع ذاته ومع الشعارات الرنانة التي ترفعها هذه المنظومة باستمرار”. بهذا المعنى يبدو أن منظومة التربية والقيم بالمدرسة المغربية تظل ضحية التوافقات الإيديولوجية والمجتمعية وأيضا الحسابات السياسية، بدل أن تكون هذه المنظومة قاطرة لتحقيق التقدم وبناء الإنسان المواطن المنفتح على القيم الإنسانية العالمية.
– الضعف الفادح للكفاءات المعرفية والأخلاقية لدى الأجيال الصاعدة سنة بعد أخرى. فمعرفيا نجد أن نمو نسب النجاح والحصول على الشواهد بالمدارس والجامعات المغربية مثلا، لا يعكس حقيقة المستوى المعرفي الأكاديمي الهزيل. نفهم هذا الوضع خاصة عندما تحصل منافسة بين عينة من المتمدرسين المغاربة وعينات من دول أخرى قريبة أو بعيدة، إذ أن هذه المفارقة تتضح أكثر من خلال لغة الأرقام: فنسبة نجاح المتمدرسين المغاربة بالبكالوريا وصلت تقريبا إلى 82% سنة 2021 و80% سنة 2020، وهي للإشارة إحدى أعلى نسب النجاح بشمال إفريقيا والشرق الأوسط، في حين أن التلاميذ المغاربة مثلا احتلوا الرتبة 75 من أصل 79 دولة مشاركة في البرنامج الدولي لتقييم التلاميذ “Pisa” الذي أعلنت نتائجه نهاية سنة 2019 من طرف منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية (ocde).أما أخلاقيا فارتفاع مظاهر العنف والغش والسلوكات اللامدنية بالوسط المدرسي وخارجه بشهادة المدرسين والآباء والمتتبعين للشأن التربوي، كفيل بتبيان أزمة القيم لدى الناشئة.
– عدم تنمية ملكة الحس النقدي وروح الإبداع والابتكار بمؤسسات التنشئة عموما وبالنظام التعليمي المغربي على وجه الخصوص. فالطفل بالأسرة المغربية، غالبا ما يجد نفسه في إطار مقولة إعادة الإنتاج، فهو مطالب بالامتثال لمنظومة قيم متناقضة، وهو امتثال يستند على مبادئ الطاعة وآليات الثواب والعقاب. وفي المقابل يبتعد عن وسائل الحوار والتشارك ومبادئ التعاقد.
أما داخل المدرسة فالتلميذ المغربي يجد نفسه ولو في قلب المواد العلمية مطالبا بالحفظ لا التفكير، وببلوغ النتيجة لا معرفة منهج استنباطها، وبتقديس المقرر لا بنقده وإبراز محدوديته، وهو ما يجعل رهان التسلح بالعقل وأدوات الشك والتساؤل والنقد، التي تراهن عليها مادة الفلسفة مثلا رهانا صعب المنال.
– سيادة مظاهر الأنانية والانتهازية والوصولية سواء لدى الناشئة أو لدى من يفترض فيهم الحرص على تقديم النموذج المطلوب، واتضح ذلك، على سبيل المثال لا الحصر، عندما تهافتت الحشود من الناس في بداية “جائحة كورونا” على مراكز التسوق الكبرى لشراء الأطنان من البضائع، في مشهد أقل ما يمكن القول عنه، أنه تجسيد لهمجية مرفوضة حتى في لحظات المجاعات الكبرى. فالتحليل البسيط لهذا المشهد ومشاهد أخرى، يبين أن شعار الأفراد المعلن في حياتهم اليومية، يستند على مقولتي “الغاية تبرر الوسيلة”، و”أنا ومن بعدي الطوفان”، وهو طبعا شعار يتنافى مع قيم المواطنة، التي تفترض التحلي بأخلاق التضحية والتضامن من جهة، وإحداث التناغم المطلوب بين الحقوق والواجبات من جهة أخرى.
– جعل التافهين و”الغوغائيين” من “فنانين” ساذجين و”رياضيين” غير مهذبين بمثابة القدوة والنموذج الذي ينبغي أن يحتذى به للأجيال الصاعدة. فتكريم هؤلاء على منصات الشهرة وحصولهم على أموال طائلة كمكافأة على تفاهتهم، كان له وقع وأثر سلبي على منظومة التربية لدى الناشئة والأجيال الصاعدة وهو ما أدى إلى قلب القيم: فصارت قيم العقلانية والانضباط والمسؤولية مرادفة للتأخر ومثارة للسخرية، بينما أصبح التمرد وحفظ الأغاني الرديئة والتلفظ بالكلمات النابية وعدم احترام الغير هو ما يستحق الإعجاب والتقدير!
أكيد أن ما سبق ذكره من ملاحظات ومؤشرات، ليس إلا مظهرا بسيطا من مظاهر أزمة تربوية عميقة يمكن مقاربتها من خلال عدة زوايا، غير أنها مظاهر تثير تساؤلات عديدة منها: أين تكمن مسؤولية الدولة وسياساتها العمومية في مآلات منظومتا التعليمية ومآسيها؟ هل ما يعرف عبر تاريخ هذه السياسات التربوية “بالإصلاح” هو فعلا إصلاح وتقويم أم أنه تخريب وتجهيل ممنهج؟ إذا اعتبرنا أنه فعلا إصلاح، فلم فشل في تحقيق أهدافه باعتراف تقارير المجلس الأعلى للتعليم رغم الملايير الضخمة من الدراهم المخصصة له من المال العام أي من جيوب المواطنين؟ أما إذا اعتبرناه تجهيلا وتخريبا، فما الغاية منه؟! أليس رهان دستور 2011 هو بناء دولة الحق والقانون التي من خلالها يتمتع كل مواطن مغربي بحقه الثابت في تعليم عمومي جيد ونافع لذاته ولمجتمعه؟!!
إن التفكير في مثل هاته التساؤلات يمكن أن يتم من خلال فتح نقاش عمومي تؤطره إرادة سياسية واضحة ومقاربات علمية رصينة غايتها بناء مرتكزات نظام تربوي تعليمي مغربي بمشروع منسجم المبادئ وواضح الأهداف. أما من لا يهمه هذا النقاش أو يتعمد تهميشه أو تعويضه بقضايا زائفة فيمكنه أن يفكر ويتأمل فيما قاله ذات يوم رئيس جامعة هارفارد سابقا ديريك بوك “إذا كنت تظن أن التعليم مكلف، فجرب الجهل”.