“مستقبل ماضينا”.. صرخة تروم صيانة التراث الحضاري المغربي
إبراز لإشكالات إعادة تهيئة التراث الحضاري المغربي المشترك، وما يحد من اشتمال العرض المتحفي على مختلف خبايا حياة الأجداد، مع تسليط الضوء على غنى وتعدد موروثات المملكة، يحضر في كتاب “مستقبل ماضينا” لعالم الآثار محمد عبد الجليل الهجراوي، الذي هو مرافعة، مفصلة وموثقة في سبيل استيعاب الأهمية البالغة لـ”تراثنا الثقافي” وكونه “أصل هويتنا ومنبع استلهام حداثتنا”.
عن منشورات وزارة الثقافة المغربية، صدر كتاب الهجراوي الذي سبق أن أدار متحف الآثار بالعاصمة وكان رئيس قسم المتاحف بوزارة الثقافة ومديرا للتراث الثقافي بها.
وإضافة إلى تجميع العديد من المعطيات حول المجموعات المتحفية ذات البعد التراثي، وواقع عدد من المعالم والمواقع التاريخية من إشكالات وتحديات، وما يعترض إصلاحها، يعد هذا الكتاب مدخلا لفهم التراث الثقافي، أمميا وفي التشريع المغربي، ومعنى المحافظة على التراث ومسؤولياته، وجوانب إسهام هذا الإرث في النمو الاقتصادي، والتنمية المحلية المستدامة، فضلا عن معاني المحافظة المتحفية على التراث، وإقامة المعارض، مع التعرض لبعض الظواهر مثل تحول “جمع القطع” من شغف، إلى “ظاهرة مرضية” تحتكر الذاكرة الجماعية.
وفي تقديم الكتاب، كتب إسماعيل العلوي، باحث ووزير سابق، أن الهجراوي “لم يقدم على صياغة كتابة هذا (…) إلا بعد ممارسة امتدت طوال عقود من الزمن، شملت كل جوانب إشكالية التراث الذي تركه لنا الأجداد عبر مختلف حقب التاريخ”.
هذه التجربة الواسعة، يضيف العلوي، هي التي دفعت الباحث إلى “الإقدام على هذه الصرخة المدوية التي يقدمها في شكل مؤلف يعرب فيه عن ألمه العميق لما يصيب تراثنا من تدهور وسوء عناية”، وزاد: “لا شك في أن هذا الواقع المؤلم الذي دفع بالأستاذ الهجراوي إلى أن يصرخ صرخته، ناتج عن أوضاع مجتمعنا الذي، رغم الجهود المبذولة، لم يرقَ بعد إلى مصاف الدولة الغنية التي في استطاعتها أن تولي تراثها العناية الضرورية لصونه والحفاظ على محتوياته”.
وينبه الهجراوي كذلك إلى المرحلة التي يوجد فيها المغرب، ودول أخرى، فكريا، “حيث تطغى العولمة”، دون استيعاب لها من المجتمع المستورِد، علما أن “كل تطور مفاجئ وغير تدريجي يحدث انفصاما في الهوية الثقافية للشعوب”، منتصرا لـ”التشبث بالهوية الثقافية” مع الوعي بأن “التطور لا مناص منه” و”التوفيق بينهما يظل السبيل الأنجع”.
كتاب “مستقبل ماضينا”، وفق الهجراوي، هو “نتاج لوعينا الحضاري، ولمدى احترامنا لآبائنا وأجدادنا”. والتراثُ الثقافي الذي ورثناه “يجسد عمقا تاريخيا، وتجذرا حضاريا، وتعددية ثقافية متميزة”، ويذكرنا في الوقت ذاته بـ”كل الفترات التاريخية التي عرفتها بلادنا”.
ويزيد الباحث مفصلا: “التراث المغربي الذي بين أيدينا جزء مما صنعه الأجداد وابتكروه، واستطاع أن يقاوم كل العوامل الطبيعية والبشرية ليصل إلينا في الصورة التي نراه عليها اليوم. وكان لفعل بعض هذه العوامل الأثر البالغ في طمس جزء كبير منه وتدميره واندثاره. لكن، وبفضل عوامل أخرى، بقي جزء منه محفوظا وشاهدا على مهارة الأجداد وعبقريتهم”.
هذا الغنى الحضاري الوطني، يذكر عالم الآثار، أنه يعيش أوضاعا “أقل ما يمكن أن ننعتها به، بالمقلقة، رغم جميع المجهودات المبذولة من أجل إنقاذه”، وهو ما يرتبط بعوامل طبيعية وبشرية ومادية وهيكلية ومعرفية.
وانطلاقا من تجربة أكاديمية وميدانية، يسجل عبد الجليل الهجراوي أنه “كلما وقفنا عند عمل أنجز أو سمعنا ببعض الوعود، أحطناها بمجموعة من الأحلام، في حين كان التأثر واليأس يدمران دواخلنا كلما رأينا أو سمعنا عن جزء من تراثنا يهدم أو في طريق الاندثار”.
ويسترسل الباحث موضحا دافع خطِّه هذا المؤلَّف: “يعلمنا التاريخ بأننا لسنا سوى حلقة مؤقتة بين صانعي هذا التراث والأجيال اللاحقة. لذلك، نحن مجبرون، كل من موقعه وتخصصه، على الحفاظ على هذا التراث، والدفاع عنه، وتسليمه لأبنائنا في الحالة التي ورثناه عليها (…) حفدتنا، لهم الحق في معرفته حتى يكونوا على إلمام بأصل حضارتهم وما صنعه الأولون”.