الأكاديمية عائشة واسمين تنظر إلى ما وراء الحرب بين الروس والأوكرانيين
قالت عائشة واسمين، الأستاذة بجامعة محمد الخامس بالرباط، إنه “قبل دخول روسيا الحرب، أو كما سماها الرئيس فلاديمير بوتين العمليات العسكرية، لم تكن الحملة الديبلوماسية التي قام بها الغرب فعالة وفي حجم المطالب الروسية أو على الأقل من شأنها التخفيف من حدة موقف الجانب الروسي وثنيه عن القيام بأي عمل عسكري ضد أوكرانيا”، مشيرة إلى أنه “كان يمكن فقط الإعلان عن تأجيل أو إلغاء مشاريع الانضمام إلى حلف الناتو، وكان من شأن ذلك أن يعيد الثقة والأمل إلى الجانبين، وأكثر من ذلك أن يشكل حماية إنسانية للمدنيين الأوكرانيين من ويلات الحرب”.
وأضافت واسمين، في مقال لها بعنوان “ما وراء الحرب في أوكرانيا”، أن “الوضع الحالي هو امتداد لأوضاع سابقة غير مستقرة في المنطقة، لكن الشيء المختلف فيه هو أن العمليات العسكرية الروسية التي كانت تستهدف الدول المتمردة عن سياستها، لم يكن يترتب عنها سوى ردود أفعال لا تتجاوز عقوبات اقتصادية ضد روسيا، بحيث تظل هذه الأخيرة تتعامل دون أضرار مع بقية دول العالم الأخرى”، مشيرة إلى أن “ما حدث قبل دخول روسيا في حربها ضد أوكرانيا أن الدول الغربية ساهمت بشكل أو بآخر في تأجيج الصراع وانتقاله إلى مرحلة العنف المسلح”.
وأوضحت الأستاذة الجامعية أن “ما يحدث حاليا يدخل ضمن أجندات مفتوحة لإعادة ترتيب القوى العالمية، وفرصة للخروج من الأزمات المتتالية التي ضربت العالم في السنوات الأخيرة؛ ربما يتطلب الأمر إعادة تشكيل أقطاب قوة عالمية تساند الولايات المتحدة في تبوؤ صدارة القرارات الدولية أو تكون في نفس المكانة من حيث التجانس والدفاع عن نفس المصالح والرؤى، مما يعيد العالم إلى زمن الثنائية القطبية ولكنها متناسقة من حيث المنطلقات والأهداف؛ وربما نكون أمام عالمين متنافرين: عالم غربي وعالم شرقي في حال تحالف روسي- صيني وكل الدول الخارجة عن النسق الغربي”.
هذا نص المقال:
الحدث الأبرز الذي هيمن على العالم منذ أيام تجلى في الحرب التي شنتها ولا تزال تشنها روسيا على أوكرانيا. هذا الحدث لم يكن مفاجئا، بل كان متوقعا ولا سيما من طرف الأمريكيين حسب استخباراتهم الخاصة. لكن الذي لم يكن في الحسبان هو أن تستغرق وقتا طويلا ولا تصل بسرعة إلى الهدف، وهو السيطرة على كييف العاصمة وتحييد النظام الأوكراني.
قبل دخول روسيا الحرب، أو كما سماها الرئيس فلاديمير بوتين العمليات العسكرية، لم تكن الحملة الديبلوماسية التي قام بها الغرب فعالة وفي حجم المطالب الروسية أو على الأقل من شأنها التخفيف من حدة موقف الجانب الروسي وثنيه عن القيام بأي عمل عسكري ضد أوكرانيا. كان منع الحرب ممكنا لو عملت أوربا وأمريكا على حث طرفي النزاع على فتح مفاوضات بينهما للوصول إلى حلول ترضيهما وتحول دون وقوع ضحايا، خاصة من المدنيين، ودون إلحاق الدمار بالبنية التحتية الأوكرانية. كان يمكن فقط الإعلان عن تأجيل أو إلغاء مشاريع الانضمام إلى حلف الناتو، وكان من شأن ذلك أن يعيد الثقة والأمل إلى الجانبين، وأكثر من ذلك أن يشكل حماية إنسانية للمدنيين الأوكرانيين من ويلات الحرب. لكن الفرص المنتظرة من الحرب بإعادة تشكيل نظام عالمي جديد مع قوى جديدة وإبعاد قوى كانت تطمح إلى لعب أدوار حاسمة ومتوازنة، ساهمت بشكل أو بآخر في اندلاع الحرب. لعل هذه الأخيرة قد تفرز أوضاعا جديدة تخدم بشكل كبير مصالح العالم الغربي وتخرجه من أزماته وتعيده بشرعية أممية إلى الواجهة العالمية.
لفهم الأوضاع العدائية الحالية بين روسيا والغرب، يمكن استحضار التاريخ الذي هو مرآة الشعوب، ولا سيما في زمن الإمبراطوريات، بحيث عرف القرن التاسع عشر مجموعة من الصراعات التي كانت تتحكم فيها عوامل القوة والبقاء والدين والمصالح التي كانت تفرض الدخول في تحالفات ولو بين أطراف غير متجانسة، مثل التحالف الذي تم بين فرنسا وإنجلترا والدولة العثمانية أثناء حرب القرم التي اندلعت سنة 1853، ودارت جل معاركها البحرية في البحر الأسود، وانتهت سنة 1856 بهزيمة روسيا. لكن من بين دوافع قيام هذا التحالف الصراع بين الكنيسة الأرثوذوكسية الروسية والكنيسة الكاثوليكية الغربية من أجل الحصول على موافقة الدولة العثمانية على منحها إدارة شؤون كنائس الشرق. كذلك كان من مفاجآت هذه الحرب أن القيصر الروسي نيكولاي الأول لم يستوعب تحالف دولتين مسيحيتين مع دولة إسلامية، لكن المصالح والاختلافات المذهبية الأرثوذوكسية/ الكاثوليكية كانت وراء اندلاع حرب القرم وما أفرزته من نتائج، من بينها انعقاد مؤتمر باريس (1856) بحضور الدولة العثمانية لأول مرة، واستعادة فرنسا لدورها الأوربي بعد استبعادها من القيام به منذ مؤتمر فيينا (1815) بسبب الحروب النابليونية. هكذا، جاء التوقيع على معاهدة باريس (1856) بمثابة أرضية مواتية لصياغة نظام أوربي جديد يحمل بين طياته سلام ما بعد حرب القرم. ورغم مجموعة من الحروب التي اندلعت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ظل هذا الوضع قائما وبأشكال مختلفة إلى حين قيام الحرب العالمية الأولى ومشاركة روسيا فيها ضمن محور الحلفاء في مواجهة ألمانيا. لكن قبل نهاية هذه الحرب قامت الثورة البولشيفية سنة 1917 التي غيرت جذريا معالم روسيا بإنهاء الإمبراطورية القيصرية وولادة الاتحاد السوفياتي الذي ضم مجموعة من الجمهوريات، من بينها روسيا وأوكرانيا. ويمكن القول بأن التحالف مع الغرب استمر مرة أخرى خلال الحرب العالمية الثانية، لكن بعد انتهائها، وبالرغم من اتفاق كل الأطراف المنتصرة في الحرب، خلال مؤتمر يالطا (بالبحر الأسود) سنة 1945، على تقسيم ألمانيا وتنظيم مرحلة السلم ما بعد الحرب، فإن الأمور اتخذت منحى آخر، وذلك ببروز عداء من نوع جديد تميز أساسا بانطلاق صراع أيديولوجي واقتصادي وتنافس عسكري بين قطبين عالمين تحت زعامة الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي. شهدت هذه الفترة، التي عرفت بالحرب الباردة، مراحل تأرجحت بين السلم المحفوف بالمخاطر والحرب التي كادت تنزلق أحيانا إلى نزاع مسلح مباشر بين القوتين العالميتين المالكتين للسلاح النووي. ومع ذلك تخللت هذه المرحلة فترات من التعايش السلمي، وظلت هكذا إلى أن تفكك الاتحاد السوفياتي سنة 1991. واتفقت روسيا وروسيا البيضاء وأوكرانيا- بواسطة اتفاق مينسك I (1991)- على إنشاء رابطة الدول المستقلة. وقد كان الغرض من تأسيس هذه المنظمة جعلها بديلا للاتحاد السوفياتي، إلى جانب تعزيز التعاون بين أعضائها في مختلف المجالات. وقد بدأ الانسحاب من هذه المنظمة تماشيا مع العروض المغرية المقدمة من طرف الغرب، وبالتحديد من الولايات المتحدة الأمريكية، إلى الدول التي تنهج النموذج الليبرالي الديمقراطي مثل جورجيا سنة 2008 وأوكرانيا سنة 2014. علما أن دولا أخرى تتقاسم معها حدودها (ليتوانيا- لاتفيا- إستونيا)، وكانت في السابق تنتمي إلى الاتحاد السوفياتي، انضمت إلى الحلف الأطلسي. والغرب يعرف جيدا الحساسية المفرطة لدى موسكو حين يتعلق الأمر بتفعيل سياسة توسيع الناتو في دول حلف وارسو السابق وليس هناك ما يزعجها أكثر من استهداف السياسة الغربية لأمنها القومي.
إذن، الوضع الحالي هو امتداد لأوضاع سابقة غير مستقرة في المنطقة، لكن الشيء المختلف فيه هو أن العمليات العسكرية الروسية، التي كانت تستهدف الدول المتمردة عن سياستها، لم يكن يترتب عنها سوى ردود أفعال لا تتجاوز عقوبات اقتصادية ضد روسيا، بحيث تظل هذه الأخيرة تتعامل دون أضرار مع بقية دول العالم الأخرى. ولكن ما حدث قبل دخول روسيا في حربها ضد أوكرانيا أن الدول الغربية ساهمت بشكل أو بآخر في تأجيج الصراع وانتقاله إلى مرحلة العنف المسلح، ذلك أن طريقة تعامل الغرب مع أوكرانيا وتشجيعها على الانضمام إلى حلف الناتو وعدم الاكتراث بمخاوف روسيا من اقتراب الناتو من حدودها، ولا سيما في أوكرانيا التي تعتبرها ضمن عمقها الاستراتيجي ولا تريد تطويق حدودها عسكريا من طرف الناتو.
استنادا إلى ما تقدم، أرادت روسيا فقط أن تظل أوكرانيا محايدة وبعيدة عن أي تحالف عسكري غربي، فغير ذلك يجعلها في وضع مخترق من طرف الغرب. بالإضافة إلى ذلك، انزعجت روسيا من طبيعة النظام الحاكم في أوكرانيا الذي تنعته بالنازي بالرغم من أنه جاء بطريقة ديمقراطية، لكنه أكثر ميلا إلى الغرب منه إليها. ذلك أن كل الموالين لروسيا تم إبعادهم من دائرة الحكم، لا سيما بعد أزمة 2014 التي أفضت إلى التدخل الروسي وضم جزيرة القرم وقبول أوكرانيا بالشروط الروسية ضمن اتفاق مينسك II (2014).
من جانب آخر، تم اتخاذ مجموعة من الإجراءات لمعاقبة روسيا، ابتدأت بسلسلة من العقوبات الفورية من طرف الدول الأوربية ومن الولايات المتحدة، وتزامنت مع انعقاد مجلس الأمن، الذي لم يتمكن من إصدار قرار يدين روسيا بسبب لجوئها إلى استعمال حق الفيتو. وعلى إثر عجز المجلس عن إصدار قراره، دعت أوكرانيا إلى طرد روسيا من مجلس الأمن. فيما بعد، انتقل النقاش إلى الجمعية العامة، التي أصدرت قرارا تطالب فيه روسيا بإنهاء عدوانها وسحب قواتها العسكرية من الأراضي الأوكرانية.
تجدر الإشارة إلى أن إجراء طرد عضو دائم في مجلس الأمن غير ممكن لعدم وجود آلية يمكن الاستناد إليها. وقد سبق لأعضاء دائمين في مجلس الأمن القيام بشن حروب في مناطق كثيرة من العالم ولم يتعرضوا لأي إجراء، والأمثلة كثيرة، يكفي أن نذكر بالحروب التي شنتها فرنسا في الخمسينيات في فيتنام وفي الجزائر، والولايات المتحدة الامريكية في فيتنام وفي العراق وفي أفغانستان، والاتحاد السوفياتي في أفغانستان سنة 1979. هل كانت كل هذه التدخلات العسكرية تحترم ميثاق الأمم المتحدة وتتم ضمن المجال المسموح به وفقا للفصل السابع الذي يبيح استعمال القوة العسكرية إذا استثنينا الحرب التي قادتها أمريكا ضد العراق (1990-1991) باسم الأمم المتحدة وبترخيص منها وبتحريك كل بنود الفصل السابع بسرعة قياسية، بحيث لم يكن يترك الوقت الكافي لتنفيذ كل قرار قبل اتخاذ قرار آخر.
لقد أصدر مجلس الأمن مجموعة من القرارات تضمنت حزمة من العقوبات غير المسبوقة في تاريخ المنظمة الدولية، جاء ذلك في قمة ضعف الاتحاد السوفياتي وتحت إشراف الولايات المتحدة. صحيح وقتها أن دولة (العراق) قامت قواتها العسكرية باجتياح تراب دولة أخرى (الكويت)، وكان ينتظر انبثاق موقف دولي تدريجي ينبني حسب بنود الفصل السابع الذي يبدأ باعتماد الإجراءات القسرية ضد الدولة المعتدية، كما كان ممكنا إعمال العقوبات وانتظار نتائجها، التي قد تكون كافية لإخراج القوات العراقية من الكويت، بدل الشروع في استعمال القوة العسكرية. تجاوزات كبيرة حدثت على مستوى الأمم المتحدة، لأن الكل كان يسير في نفس المركب الأممي. حرب العراق (2003) تمت دون ترخيص من الأمم المتحدة وشنت خلالها المقاتلات الأمريكية أبشع قصف على المواقع المدنية واستعملت فيها كل الأسلحة المباحة وغير المباحة قبل الشروع في الاجتياح العسكري الأمريكي والبريطاني وقوات التحالف للأراضي العراقية، ولا أحد طالب بطرد الولايات المتحدة الأمريكية من مجلس الأمن.
إجمالا، يمكن القول إن ما يحدث حاليا يدخل ضمن أجندات مفتوحة لإعادة ترتيب القوى العالمية وفرصة للخروج من الأزمات المتتالية التي ضربت العالم في السنوات الأخيرة. ربما يتطلب الأمر إعادة تشكيل أقطاب قوة عالمية تساند الولايات المتحدة في تبوؤ صدارة القرارات الدولية أو تكون في نفس المكانة من حيث التجانس والدفاع عن نفس المصالح والرؤى، مما يعيد العالم إلى زمن الثنائية القطبية ولكنها متناسقة من حيث المنطلقات والأهداف. وربما نكون أمام عالمين متنافرين: عالم غربي وعالم شرقي في حال تحالف روسي- صيني وكل الدول الخارجة عن النسق الغربي. لكن يبقى السؤال مطروحا بشأن مستقبل منظمة الأمم المتحدة التي وكأنها لا تتكلم إلا صوتا واحدا وما تبقى من الأصوات محكوم عليه بألا يغرد خارج السرب.