البحث الأركيولوجي بالمغرب.. اكتشافات رائدة تأمل الاستغناء عن “التمويل الدولي”
مستجدات عديدة في البحث الأثري بالمغرب حملت جزءا من حصيلتها ندوة جمعت أركيولوجيين ومؤرخين مغاربة بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط في اليوم الثاني من الدورة الأولى لـ”ملتقيات التاريخ والتراث”، التي تنظمها جامعة محمد الخامس.
ومن شمال المغرب إلى جنوبه، تطرق المحاضرون لحصيلة الأبحاث الأثرية التي سلطت الضوء على “مناطق كانت قبل عشرين سنة مهمشة ومنسية”، والصعوبات الراهنة التي تواجه هذا البحث الذي يهم الفترات منذ ما قبل التاريخ، وصولا إلى فترة ما بعد الحضور الإسلامي بالبلاد.
وفي اللقاء الثالث، المنعقد الجمعة 26 نونبر الجاري، تحدثت عائشة أوجع، باحثة في شعبة ما قبل التاريخ بالمعهد الوطني لعلوم الآثار والتراث، عن الأبحاث بأوسرد، في أقصى الجنوب المغربي بجهة الداخلة وادي الذهب، وما اكتشف فيها، بتمويل محلي تماما، من نقائش حيوانات متوحشة (مثل الزرافات) ومدجّنة، تعود إلى فترات مختلفة، وكتابات بالليبية الأمازيغية.
وتطرقت الباحثة لما وقف عليه البحث خلال أربع سنوات من آثار جنائزية بلغ عددها 1736 أثرا، من بينها قبور لها باب للدخول أو بأجنحة، و19 موقعا ما قبل تاريخي، و19 منشأة لم يحدد دورها بعد، فضلا عن نقائش.
من جهته، تطرق محمد اكبيري علوي، باحث بالمعهد الوطني لعلوم الآثار والتراث، عما اكتشف بساحل الريف من شريط أثري يعود إلى ما قبل الفترة الرومانية والمورية المتأخرة والفترة الفينيقية، ومن بين ما احتواه “بقايا سكنية لفترات قديمة”.
تم هذا بعدما كان يقابل الحضورَ الفينيقي المكثف بالسواحل المتوسطية لشبه الجزيرة الإيبيرية غيابٌ في مثل هذه الآثار بالسواحل المغربية، إلى أن وجد تحت معسكر للحماية الإسبانية مباشرة على “بقايا سكنية مهمة جدا”، ثم عثر في القسم الشرقي من الموقع على سور، وهو اكتشاف وصفه الباحث بـ”المهم”.
وسجل اكبيري علوي تقدما ملموسا على مستوى نشر الأبحاث الأثرية في مجال فترات ما قبل الإسلام، من بينها الأبحاث في موقع زليل، وقال إن “نشر نتائج الأبحاث يشجع على القيام بالمزيد من الأبحاث ويعطي دفعات قوية للتحريات”.
وحول التنقيبات بموقع ريغا الأثري، ذكر الباحث أن الحفر الإسلامية فيه، التي تعود إلى القرنين 8 و9 الميلاديين، والقرن 14، “حفر مهمة جدا عثر فيها على مجموعة من اللقى، من بينها اللقى العظمية التي قام باحث من الموقع بدراستها ومن بين الاستنتاجات المهمة التي وقف عليها بخصوص الوحيش هو أنه لم يطرأ تغيير على عادات الأكل بين الفترة الرومانية المتأخرة والفترة الإسلامية الأولى”، وهذا يعني أن “استهلاك لحم الخنزير بقي مثل السابق”.
وتحدث الباحث أيضا عن “أول معصرة للخمور بالمغرب” بالموقع ذاته، تم الحفر فيها والتأكد منها من خلال مجموعة من الأبحاث والعينات الإخبارية، وأبرز أهميتها المتمثلة في “تميزها بنفس مكونات معاصر الزيتون”، وهو ما يطرح “إشكالية تدفع، ربما، إلى إعادة النظر في تأويل المَعاصر التي اكتشفت بمواقع أخرى”.
وحول أهمية البحث الأركيولوجي، ذكر اكبيري علوي أن “الوجود الإسلامي بوليلي تم اعتمادا على الأركيولوجيا إلى حدود الآن، ولا وجود لحديث تاريخي عنه”، وأضاف أن هناك “منازل فاخرة بوليلي لا نعرف المستويات التي تعلوها بعد الجلاء عنها”، كما سجل أن “الأبحاث في مواقع قريبة يمكن أن تعطي معطيات ستمكّن من إجراء استنتاجات مهمة”.
واستحضر الباحث مدينة منفتحة على التجارة المتوسطية تم اكتشافها، كما عثر بها على كنز بمجموعة من الحلي، بعد البحث في موقع “الأقواس” نواحي أصيلة، ولو أن “البنيات الأثرية لا تعكس أهمية الموقع بشكل عام”. وقدم الأركيولوجي ذاته مثالا بـ”موقع ليكسوس” ومستوياته الفينيقية، التي صيّرته “مرجعا للمواقع الفينيقية بالبحر الأبيض المتوسط”.
و”رغم أهمية النتائج والأبحاث” في السنوات العشرين الأخيرة، ذكر الباحث بالمعهد الوطني لعلوم الآثار والتراث أن البحث “ما يزال يعاني من بطء في وتيرة الدراسات والأبحاث، وما زال التعاون محتشما بين الجامعة ومعهد الآثار، ومجمل برامج البحث تجري بشراكات دولية، ولو أن التعاون الدولي ضروري، لكن ترسيخ مدرسة وطنية في الأركيولوجيا لا يمكن إلا بترسيخ برامج مغربية-مغربية”.
وقال عبد الله فلي، أستاذ بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بني ملال، إن “الانفتاح الجاري على فترات البحث ما قبل الإسلامية، ليس بنفس درجة الانفتاح على الفترة التي بعدها”، وهو “ما يدفع المتخصصين إلى التباكي”، بعد رحيل الجيل المؤسس، مثل عالمة الآثار جوديا حصار.
و”رغم قلة ذات اليد والأطر”، استحضر فلي عددا من الاكتشافات بمسقط رأس المهدي بن تومرت قبل الهجرة إلى تينمل، والمستويات الإدريسية بوليلي، واكتشافات قرية ريغا الأثرية، وسجلماسة، والمستويات ما قبل المرابطية بالقرويين، ومواقع بني عبد العافية، وهو ما وصفه بـ”طفرة عددية في العشرين سنة الأخيرة”، رافقها “مجهود جبار للنشر”، خاصة في بداية العشرية الثانية من الألفية الثالثة.
ومع استحضار كون المغرب “لم يكن بلدا للحفريات الكبرى، بل انصب الاهتمام أكثر بالأركيولوجيا المعالِميّة” مع هنري تيراس، تطرق الباحث إلى “تجديد مقاربة الآثار الإسلامية مع بداية الثمانينات، مع مشروع جبالة غمارة، دون إغفال دراسة المعالم، مع الانفتاح على البنيات الاقتصادية والاجتماعية والاستيطان والثقافة المادية”.
وقال المتحدث إن “اهتمام الآثار الإسلامية بالمدينة كان طاغيا على المشهد، وترك المجال للإثنولوجيا والسوسيولوجيا القروية في ما يتعلق بالباقي، إلا في حالة العمارة العسكرية التي كانت في صلب اهتمامات السلطة الاستعمارية، مثل أمركو، تاسغيموت، تاغجيجت، وزاكورة… لكن مشروع جبالة غمارة فتح مشاريع مهمة في هذا المجال، مثل إمارة بني العافية، وسوس تكنة، وريغا، وموقع مولاي إدريس بعين الشقف قرب فاس”.
وسجل الباحث “النقص الكبير في المعطيات الأثرية المتعلقة بأسلمة البادية المغربية في بداية الفترة الإسلامية، التي تقارب غالبا من المصادر القليلة التي تكتفي بخطاب عام لا يمكّن من تتبع التغيرات الثقافية بين الفترة القديمة والإسلامية”، موردا أن البرامج الأثرية بالبصرة، وأغمات، ونكور، ووليلي، وعين إسحاق، كان لها “الأثر الكبير في إغناء المعطيات المتوفرة حول هذه الفترة”.
وذكر الباحث أن من التحديات المطروحة على “الأركيولوجيا الإسلامية بالمغرب”، ضرورة “تحقيق الاستقلالية عن التعاون الدولي في تمويل المشاريع، لأن هذا التخصص يعتمد كلية على مشاريع التعاون، وبالتالي ليس لنا إلى حدود الآن أركيولوجيا مغربية ممولة وطنيا، بداعي قلة التمويلات وحاجة الأركيولوجيا إلى تمويلات كبيرة علما أن هذا غير صحيح بالمطلق”.
وزاد المتدخل أن “من التحديات أيضا، تحدي التكوين والتكوين المستمر، فخرّيجو المعهد يقومون بمهام إدارية في وزارة الثقافة ولم يعد لهم أي ارتباط بالميدان الأثري، إلى جانب أن دور الجامعة في هذا التكوين ضعيف جدا، نظرا لكثرة الطلبة في الإجازة وقلة الموارد في الماستر والماستر المتخصص”.
كما تطرق فلي إلى “غياب الأركيولوجيا الوقائية في بلادنا”، مسجلا أن “المفتاح الحقيقي لنقلة نوعية على مستوى الاهتمام بالتراث، المقارنة مع جيراننا بإسبانيا”، قبل أن ينبه إلى أن تخصص الأركيولوجيا الوقائية “سيمكن من تشغيل آلاف الشباب”، علما أن هذا “لا يدخل حتى في النظرة التي يحاول المسؤولون في قطاع الثقافة والآثار التفكير فيها”.