جميع الأخبار في مكان واحد

كوكاس يدعو إلى تحرير الرجل من قيود الهيمنة الذكورية قبل المرأة

إن السلطة والهيمنة مكلفة مهما بدت مريحة ونوعا من الامتياز الاجتماعي، والمسود فيها كما السائد يؤدي فواتير ثقيلة كل من موقعه.. وقيم الذكورة كما الأنوثة هي صنع مجتمعي تاريخي في ظل شروط اقتصادية واجتماعية وثقافية، بمعزل عن الأفراد ووجودهم البيولوجي، قسمت الأدوار بين الرجل والمرأة بشكل مجحف، وانعكس ذلك في كل مجالات الحياة، بما فيها الأعمال الإبداعية..

ثمة صور نمطية للمرأة يتم تناقلها كما لو أنها وضع طبيعي، مشوبة بالدونية والتهميش والإقصاء، وأعتقد أن الرجل نفسه ضحية لقيم التنميط هاته، ومعاناته من قيم اللامساواة لا تقل سوءا عما تعانيه المرأة ولو بدا في وضع المستفيد من هذا اللاتكافؤ، لأنه يعيش تحت ضغط قيم التنميط والصور المنمذجة خاصة لدى النخبة التي تريد أن تعيش حياة إنسانية طبيعية..

لذا، نحتاج إلى تغيير زوايا وجهة نظرنا بالدفاع عن شرط الوجود البشري للمرأة والرجل، بعد أن خاضت المرأة معارك تحرير نفسها لقرون طويلة، ربما من المواقع غير السليمة، يمكن أن نسعى اليوم إلى الدفاع عن تحرير الرجل من هيمنة الذكورة أيضا، نحتاج ليس إلى حركة رجولية Hominisme ولا إلى حركة نسوية Féminisme وإنما إلى حركة إنسانية Humanisme من أجل الدفاع عن ديمقراطية الوجود البشري في إطار المساواة والعدل وتكافؤ الفرص بين الرجل والمرأة.

أثارت الندوة التي نظمت بشراكة بين إدارة المهرجان والهيئة العليا للسمعي البصري في إطار فعاليات المهرجان الدولي لفيلم المرأة بسلا الأسبوع الماضي جدلا مثمرا بين فاعلين من مختلف المشارب والاهتمامات، نساء ورجالا صناعا للصورة ومتلقين لها أو وسطاء بين المرسل والجمهور، وأغنت النقاش العميق بالمغرب حول صورة المرأة في السينما والتلفزيون من خلال التمثلات التنميطية للمجتمع في أفق الدفاع عن الحضور الإنساني للمرأة ككائن في إطار الإنصاف والمساواة.. والحقيقة أن موضوع المرأة في الإنتاج الرمزي يمثل إشكالا إنسانيا أكبر مما يعتبر موضوعا خاصا بالمجتمعات المتخلفة التي عانت المرأة وما زالت في أحضانها من الميز والإقصاء والتهميش والتحقير في أحايين كثيرة.

ثمة بداهة أساسية تتمثل في أن المنتوجات الرمزية في مختلف المجتمعات البشرية تعكس صورا وتمثلات نمطية تحمل بعد الهيمنة الذكورية، وإسناد الأدوار التقليدية للمرأة، التي ندافع على حضورها ككائن أي كإنسان. وحين نتكلم عن التلفزيون وعن السينما في دولة مثل المغرب، فإننا نجد أن الأدوار والحوارات التي تقوم بها المرأة أو المتموضعة حول المرأة تجسد صورة اللاوعي المجتمعي بشكل عام، كما لو أن الصناعة الإعلامية والثقافية تضع نفسها رهن رغبات وتطلعات وانتظارات الجمهور؛ فصورة المرأة كما تقدم في العديد من الإنتاجات السينمائية والتخييل التلفزيوني، مع استثناءات قليلة، تعكس المرأة من خلال التمثلات السابقة على وجودها ككائن بيولوجي، أي المرأة كمنتوج تاريخي واجتماعي وثقافي في المجتمع المغربي البطريركي.. حيث المركزية الذكورية هي التي تحدد الأدوار والوظائف الجنسانية، أو ما أسماه بيير بورديو ما “ينغرس في طوبولوجيا جنسية للجسد المنشأ اجتماعي (Socialisé)، وفي حركاته وتنقلاته التي حظيت على نحو مباشر بدلالة اجتماعية” (انظر كتابه “الهيمنة الذكورية”، ترجمة سلمان قعفراني، مراجعة ماهر تريمش، مركز دراسات الوحدة العربية ونشر المنظمة العربية للترجمة، بيروت، ط 1 أبريل 2009).

في العديد من الأفلام والمسلسلات والسيتكومات المغربية وحتى في الإشهارات، لا تبرز المرأة إلا كجسد مخفي ومنمط ملفوف وسط قماط من التصورات والكليشيهات التقليدية: المرأة/ المتعة، المرأة/ السحر والشعوذة، المرأة/ حضور الغيبي وغير الواقعي، المرأة/ الشيطان والمكيدة، المرأة المعنفة/الدونية، المرأة/ البضاعة والمشَيّئة تجاريا، المرأة/ الغواية والإغراء وإفساد الوضوء الاجتماعي، المرأة/ المطبخ والإنجاب وإعادة إنتاج التمثلات المجتمعية نفسها عن جسدها وعن صورتها ومركزها الدوني من خلال عملية التنشئة الاجتماعية المسندة إليها. وأي خرق لهذه الأدوار المقسمة من خلال الثقافة الذكورية يعرض صاحبته أو صاحبه إلى التهميش والتحقير والطرد من حقل الجماعة والطعن في الشرف والاستقامة الأخلاقية..

لا يمكن إلا أن نحيي الكثير من المبدعات مخرجات وكاتبات سيناريو ونساء يقفن خلف الكاميرا وفي قلب اقتصاد الصناعة السينمائية والإنتاج التلفزيوني..

لقد نجحت المرأة المغربية في فرض وجودها في السينما والتلفزيون بشكل مُبهر رغم كل أنواع الصعوبات والتحديات التي تواجهنها، انتقلنا من امرأة مناضلة وحيدة هي فريدة بليزيد إلى قائمة كبيرة ومتعددة من المخرجات وكاتبات السيناريو اللواتي يصعب حصرهن أو عدهن: من نرجس النجار وفريدة بورقية التي جاءت إلى السينما بخلفية تلفزيونية، إلى فاطمة بوبكدي وليلى الكيلاني وليلى المراكشي وياسمين قصاري وغيرهن من نساء الجيل الجديد في الصناعة السينمائية والتخييل التلفزيوني.. واللواتي تتسم إنتاجاتهن التلفزيونية والسينمائية بقوة الحضور وبخيال إبداعي خصم وبحملهن لقيم جديدة تحاول إخراج المرأة من الصور النمطية التقليدية.

إن الإشكال الذي وقع هو أن السينما والتلفزيون اغتنت بروافد ودماء جديدة وأجيال شابة، سواء على مستوى الصناعة السينمائية كتابة وإخراجا وتصويرا وتمثيلا أو على مستوى رؤى جديدة وتجارب متميزة؛ لكن البعض فهم تكسير الطابو بترسيخ طابو جديد، وهو التركيز على البعد التجاري التبضيعي للمرأة. والحقيقة أن هناك ما يشبه الفهم المعطوب للحداثة في مجال الصورة في المغرب، أي وضع بدل المرأة المحجبة اجتماعيا والمنصاعة والخنوعة والمرأة المضطهدة التي تصل لتبني إيديولوجيا الهيمنة الذكورية كوضع طبيعي وديني، امرأة متحررة من كل شيء، مدخنة متعددة العلاقات الجنسية، مغرية لا مشكل لها مع التدخين والشرب ووهب نفسها لأول عابر طريق؛ فالجرأة لا تتجلى في إبراز امرأة متحررة من كل شيء حتى من كرامتها، الجرأة هي في التصدي لمختلف التمثلات التقليدية وتفكيكها وإقامة تمثلات جديدة عن المرأة كوجود بشري.. فصدمة الذوق العام ليست سبيلا لتجسيد رؤيا جديدة للمرأة خارج البعد التجاري والتنميطي..

وهنا يطرح سؤال مركزي هل دور الإبداع هو استنساخ الواقع أم التأثير فيه؟ هل الصناعة السينمائية أو التخييل التلفزيوني مثلا مطلوب منها أن تستجيب للمواضعات الاجتماعية القائمة وأشكال صور التنميط الموجودة قهرا في المجتمع، أم أن من وظائف السينما والتلفزيون زعزعة التقليد والتسامي بالغرائز ورغبات المجتمع عبر الخيال المبدع..

أليس مطروحا على هذه الأدوات الإبداعية خلخلة البنيات الذهنية ومهاجمة التمثلات التقليدية التي تحصر المرأة في اقتصاد المنزل والإنجاب وتربية الأبناء والخضوع والخنوع لسلطة الرجل وإعادة إنتاج نفس العلاقات الاجتماعية ومختلف قوالب التنميط الاجتماعي؟

إن الصناعة السينمائية في تقديري جزء من أدوات التنشئة الاجتماعية المطلوب فيها إعادة الاعتبار للمرأة في مختلف أبعادها لصون كرامتها والدفاع عن حقها في المساواة والعدل.. من خلال تفكيك كل أشكال الصور الدونية والتمثلات التقليدية حولها من أجل تقدم المجتمع والدفاع عن ديمقراطية الوجود لكل مكونات المجتمع التي تتعرض للتهميش والإقصاء والتنميط والهشاشة.. والتوجه بوعي نقدي إلى المراكز التي يتقنع فيها التقليد بألف حجاب؟

أعتبر أن الوضع جد معقد وتتداخل فيه سلط عديدة، ولا يمكن اختزاله في نوع من التبشيرية أو حشو الإبداع بإيديولوجيا النسوية والخطاب المتعالي، لأن أساس السينما والتلفزيون هو الخيال وحرية الإبداع؛ ذلك أن الأعمال الإبداعية فيهما تتداخل فيها أربعة عناصر رئيسية مختلفة حد التناقض أحيانا: هناك الخطاب الإيديولوجي أو النظري أو رؤية العالم التي يحملها الكاتب أو المخرج المبدع، وهناك مقتضيات التخييل التي يفرضها أي عمل إبداعي وفق الشروط الخاصة بجنسه، ثم اقتصاد الصناعة السينمائية المرتبطة بإنتاج وترويج المنتوج، وهناك الجمهور/المتلقي بمختلف بنياته الذهنية وإرثه الثقافي الموروث..

كيف يمكن تقديم صورة حداثية للمرأة في الأعمال السينمائية والتلفزيونية توفق بين الإكراهات الأربعة أعلاه دون أن تنقطع عن سياقها التاريخي وتبدو غريبة وبعيدة عن زمنها أو فاشلة في زحزحة أشكال التنميط التقليدية المتوارثة عبر قرون عن المرأة ووظائفها وأدوارها؟

“المرأة هي اسم لحقيقة الحقيقة” كما يقول جاك دريدا، العبارة تكثيف لغوي متسام حول جوهر الوجود البشري للمرأة؛ لكنها تبدو متعالية عن الواقع الذي يعج بكل قيم اللامساواة والإقصاء اتجاه المرأة في مجتمع مثل المغرب، حتى أني أشتهي من كل العاملين في مجال الصناعة السينمائية والتخييل التلفزي أن يقربونا في السينما والتلفزيون فقط من صورة المرأة كما تجسدت في الشعر خاصة في قصائد الملحون على الأقل، نطمح إلى إبداع نموذج لصورة امرأة ككائن وجودي له الحق في الاستقلالية والتمتع بما تمنحه الطبيعة والمواثيق الدولية وبما كرمته به الديانات السماوية كخليفة في الأرض بلا وصايا تمييزية.. بدل إعادة إنتاج التمثلاث والتنميطات التقليدية نفسها التي ترسخ صورة المرأة الدونية والمعنفة أو موضوع إغراء وإثارة أو مجرد مشعوذة وساحرة وأمية متخلفة..

وفي اعتقادي إن حل هذه المعضلة التاريخية يكمن في محاولة أن نجرب الانتقال من الخطاب المتمركز حول تحرير المرأة إلى تحرير الرجل نفسه من الهيمنة الذكورية؛ لأنه هو ذاته ضحية تمثلات قبلية وتنميطات تقليدية أضحت سابقة على وجوده، من أجل الدفاع عما أسميته في مفتتح هذا المقال بديمقراطية الوجود الإنساني: المرأة والرجل.

(*) كاتب وإعلامي

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.