لا ديمقراطية بدون ديمقراطيين 2/2
في زمن كورونا اتصل بي أحد أعضاء حزب يساري للمشاركة في ندوة حول “المغاربة وتقبل الآخر”، بعدما أخبرته بقبول الدعوة، عاد ليتصل بي ليسألني عن موقفي من القضية الفلسطينية، سألت “الرفيق” إن كانوا قد غيروا موضوع الندوة، لأن ما اقترح علي لا علاقة له بالقضية الفلسطينية، استغربت من طرح هذا السؤال من أساسه، وأخبرته أن موقفي واضح من هذه القضية وأنا أعبر عنه في مقالاتي وعلى حسابي على مواقع التواصل الاجتماعي منذ مدة، وهو بالفعل متطابق مع موقف “مشروع حزب التجمع من أجل التغيير الديمقراطي”، ليخبرني بعدها أن قياديا بالحزب أسر له أنني من مناصري التطبيع مع ما سماه “الكيان الصهيوني”، قلت له أنني مناصر للوطن فقط وقضاياه المحورية، وفي هذا الإطار بالضبط كان مشروعنا السياسي أول من رحب “بقناعة” راسخة بالاتفاق الثلاثي، وهو موقف جديد ربما لدى بعض التنظيمات التي غيرت موقفها بين ليلة وضحاها، بينما بالنسبة لنا يتعلق الأمر بقناعة منذ 2002 على الأقل (بالنسبة لي شخصيا)، فنحن مع الجهود الأممية المبذولة من أجل إحلال سلام عادل و مستدام قائم على حل الدولتين، لكننا نركز أكثر على قضايانا الوطنية المصيرية ووحدة ترابنا ومشاكلنا و تطلعات شعبنا في حياة أفضل، وذكرته أنني لست مطالبا أصلا بشرح موقفي من جميع القضايا حتى أشارك في ندوة، و الأجدر بحزبكم أن يسألني عن قضيتنا الوطنية الأولى والمقدسة التي هي وحدتنا الترابية.
بعد أقل من ساعة عاد “الشاب” ليتصل بي مرة أخرى، ليبلغني اعتذاره عن مشاركتي في الندوة، لأن قياديا بالحزب رفض ذلك، تفهمت الأمر بصدر رحب، لكنني تعجبت من سلوك هذا القيادي الذي يجسد عقلية متكلسة، إن الأمر هنا يتعلق بممارسة الوصاية على الناس على أساس موقفهم من قضية بعيدة عنا، وإن كانت تربطنا بها وشائج، فأي موقف من القضية، كيفما كان مضمونه، لا يجب أن يصل أبدا إلى مستوى التخوين أو حتى الخلاف، أما الاختلاف فهو رحمة مادام الأمر لا يتعلق بقضية وطنية جوهرية، وهذه المواقف الإستئصالية و غالبا ما تصدر عن تنظيمات و أفراد من منطلق ديني إقصائي أو قومي شوفيني أو إيديولوجيا شمولية، إن كنت أختلف معك فبإمكاننا تدبير هذا الاختلاف بشكل يساهم في تطوير النقاش العمومي حول عدد من القضايا، بإمكاننا أن نلتقي في نقط معينة، وإن لم نلتقي، فبإمكاننا احترام بعضنا البعض، فالديمقراطية تقتضي وجود هذا التسامح السياسي كما تتطلب تطبع المواطنين والتنظيمات بثقافة مؤسسة على القبول والتعايش تجاه بعضهم البعض في مجتمع مستقر ينعم بالطمأنينة، مع تجاوز كل المحظورات الأيديولوجية والدينية والعرقية والاجتماعية، اللهم إن كان لديها مضمون إرهابي يهدد الاستقرار ويهضم الحقوق والحريات الفردية والجماعية.
إن مسلسل الدمقرطة كما أكدت في الجزء الأول من هذا المقال، لا يتطلب فقط مباشرة إصلاحات دستورية وقانونية ومؤسساتية، بل يحتاج بالأساس إلى توفير بيئة اجتماعية وثقافية مهيأة لقبول الفكرة الديمقراطية وترجمتها إلى سلوك ديمقراطي على أرض الواقع، ثقافة تعترف بأن لكل فرد في المجتمع حقوقا متساوية مع غيره من المواطنين، وتجعل جميع أفراد المجتمع يتعاملون مع بعضهم البعض على هذا الأساس، وإلا فإننا سنكون أمام ديمقراطية تقنية وصورية، ستظل حبيسة الأوراق والمستندات والملصقات والقوانين والمراسيم التي لا تجد صدى حقيقيا لها في ممارسات وسلوكات أفراد المجتمع، بتعبير آخر، فنحن نحتاج إلى إنتاج مواطنين ديمقراطيين يؤمنون بالديمقراطية ومستعدين للرضوخ لقواعدها والدفاع عن روحها في سبيل العيش المشترك.
أحزاب تدافع عن الديمقراطية؟… فلتكن ديمقراطية أولا
إننا هنا لن نتعرض لجانب “الديمقراطية” المتعلق بالإصلاحات القانونية، لأن هذا الجانب على أهميته يحتاج إلى بيئة حاضنة تجعل أفراد المجتمع مستعدين لتقبل مبادئ الديمقراطية و روحها ويتبنونها هم أولا، فالذي يتحدث عن “الديمقراطية” ولا يقبل في نفس الوقت النقاش والاختلاف، و لا يؤمن بحق كل فرد في مجتمعه أن يمتلك حريته واستقلاليته، مهما اختلف عنه دينيا ولغويا وعرقيا واجتماعيا وإيديولوجيا، يجب عليه أن يطالب أي شيء آخر غير “الديمقراطية”، لأنه لا يؤمن بروحها وقيمها. فحديث الأحزاب والتنظيمات المدنية والمواطنين صباح مساء عن الديمقراطية وتنديدهم بغيابها أو ضعفها أو خرق مبدأ من مبادئها في المؤسسات أو في طريقة تدبير الشأن العام، يجب أن يسبقه تحليهم هم أولا بقيمها وتجسيد هذه القيم بسلوكاتهم وممارساتهم، وإلا فمتى أتحنا الفرصة لأحدهم ليتولى أمرا من أمورنا سنكون لا ريب أمام مستبد ينتهك مبادئ الديمقراطية.
تعتبر الأحزاب السياسية من ركائز الديمقراطية، فلا ديمقراطية بدون أحزاب، لكن في نفس الآن فالمنطق لا يستوعب ادعاء الدفاع عن الديمقراطية من طرف تنظيمات تفتقر إلى الديمقراطية الداخلية أو تنهل من مرجعيات معادية للديمقراطية، وبالنظر إلى واقع الكثير من أحزابنا، فالتجرد و الموضوعية يفرضان علينا أن نعترف بأن الديمقراطية الداخلية فيها تنتهك لصالح الاصطفافات الانتهازية و منطق الكعكة و الزبونية والمحسوبية و المقاربات العائلية، مع تباين بين هذا التنظيم وذاك، حتى لا نضع البيض كله في سلة واحدة، فالكثير من المؤتمرات لا تعدو أن تكون سوى عروضا هزلية صورية تفرز لنا هياكل متفق عليها سلفا، على أسس يمكن أن تتعلق بأي شيء، سوى أن ترتبط بمنطق التدافع السياسي والمنافسة السياسية و مقارعة الفكر بالفكر، البرنامج بالبرنامج. زعماء خالدون يتربعون على الكراسي مدى الحياة، أحزاب خلقت صغيرة فكرا و امتدادا و بقيت كما هي مصابة بعاهة مستدامة قبل أن تتحول إلى “مقابر” نتذكرها في بعض المناسبات، دون أن ننسى اضمحلال التمايز المرجعي و بالأساس انتصار المقاربة الإنتخابية، والتقاعس في لعب الأدوار الدستورية المنوطة بالأحزاب.
أما على المستوى الإنتخابي فالجميع يعرف كيف تتم العملية، وكيف يتحالف المال و استغلال الدين و القبيلة ومعايير أخرى، خارج المنطق الديمقراطي، وهذا يسيء لروح الديمقراطية والتدافع السياسي، هنا يتم استغلال أدوات الديمقراطية التمثيلية لاغتيال الديمقراطية نفسها، وتبرير هذا الاغتيال بشكل سوفسطائي، فالديمقراطية تتم عبر التعاقد مع المواطنين من خلال صناديق الاقتراع، وهذه آلية كونية، خارج ذلك، يخاطبك المنتخب، لا يهمك كيف ولأي دافع صوت الناس، هل تريد ممارسة الوصاية عليهم؟ أو تعتبرهم قصرا؟ هكذا يتم تبرير كل السلوكيات اللاديمقراطية بآلية ديمقراطية، وأمام هذا الوضع الذي لا يتغير، اتسع النفور وتمدد العزوف السياسي و الكفر بالانتخابات كآلية رئيسية لممارسة الديمقراطية.
إننا هنا لا نعمم ولا نضع نظارات سوداء، ولهذا فمن واجبنا الاعتراف بوجود الكثير من الديمقراطيين النزهاء داخل كل الأحزاب السياسية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، لكن على مستوى تدبير المؤسسات الحزبية فالتغيير لصالح روح الديمقراطية صعب، لكنه ممكن، لذلك وجب إطلاق حوار وطني وتطوير نقاش عمومي ناجع في اتجاه تأهيل الكثير من الأحزاب على مستوى ديمقراطيتها الداخلية وطريقة اشتغالها و مراجعة قوانينها الأساسية، و كنس السلوكات المتدنية للكثير من السياسيين، حتى نكون أمام تنظيمات ديمقراطية يمكنها أن تحدثنا عن الديمقراطية.
الإسلاميون والديمقراطية
لقد ساهمت المقاربات الأمنية في تقوية الإسلاميين في الكثير من دول شمال إفريقيا والشرق الأوسط، فيما كشفت الديمقراطية التي لا يؤمنون بها، فيما بعد، عن حقيقتهم وجوهر شعاراتهم الرنانة، لقد تلاشت تلك الأسطوانات حينما وصلوا إلى السلطة واصطدموا بإكراهات الواقع، فتلك “الديمقراطية” التي أوصلتهم إلى الحكم، أو المساهمة في تدبير الشأن العام، باستغلال خطاب “المظلومية” و “نظرية المؤامرة”، هي نفسها التي كشفت عن عدم امتلاكهم حلولا واقعية لمشاكل المواطن، كما بينت ازدواجية الخطاب و السلوك لديهم، من خلال التشبث بالكراسي و السعي وراء نيل مكاسب مادية على حساب الوعود الوردية السهلة التي قدموها للمواطن، قبل أن ينهالوا عليه بالقرارات اللاشعبية التي أنهكت قدرته الشرائية وبخرت حلمه في حياة أفضل، هنا سحبت الديمقراطية الإسلاميين إلى ملعب الحقيقة لتختفي شعارات الزهد والإخاء والازدهار واجتثاث الفساد.
من خلال أدبيات تنظيمات الإسلام السياسي، فمن الواضح أن معظمها إن لم أقل جميعها، لا تعتبر الديمقراطية شكلا مقبولا من أشكال الحكم، على الأقل في خطابات زمن المعارضة والبحث عن الشرعية، وقد يفعلون ذلك لاحقا اضطرارا أو تقية، وفي الكثير من الأحيان مطية للوصول إلى الحكم، في أفق الانقضاض على السلطة، أو الاستفادة من بذخ تدره المناصب والمسؤوليات، إن رفضهم الواضح أو المضمر للديمقراطية راجع بالأساس إلى مرجعياتهم التي تنفر من كل ما يرتبط بالثقافة الغربية، متناسين أن الديمقراطية كما الكثير من الأفكار والابتكارات التي وصلت إليها الإنسانية، ليست سوى نتاجا لديالكتيك تاريخي وتراكم ساهمت فيه جميع الحضارات بدون استثناء، لكنهم لا يتوانون في نفس الوقت في “استغلال” أدواتها بشكل ميكيافيلي للوصول إلى الحكم، لذلك يعتبر الكثير من المحللين أن الإسلاميين والديمقراطية توليفة مستحيلة لأنهم ينظرون إليها كسلم للصعود فقط، فيما هي في الحقيقة رؤية تعيدهم إلى الأرض وتسحب منهم شعارات تقديس الزعيم الملهم والشعارات التي تلهب العواطف خارج مبادئ العلم والعقلانية والواقعية و النسبية.
حزب العدالة والتنمية
إن حزب العدالة والتنمية نموذج لهذه التنظيمات، وإن كان يظهر أن هذا الحزب متقدم جدا على مستوى الديمقراطية الداخلية بشكلها التقني التنظيمي، وهذا ما لا نملك سوى الاعتراف به، إلا أننا مطالبون بالاعتراف كذلك برسوخ عقلية “الشيخ والمريد” وراء هذه الديمقراطية التقنية، و هذا يظهر لنا حينما يتحدث بنكيران بلغة “الأمر الواقع”، يعطي التوجيهات والتعليمات، فيما يصفق له الجميع و يرضخ لأوامره بدون نقاش يذكر، هذا الحزب لا يتوانى في تجاوز “القبول بالديمقراطية” بشروطها وممارساتها وطنيا، إلى التبجح بها غداة كل انتخابات منحته الرتبة الأولى، إلا أنه يسارع في الطعن في جوهرها وآلياتها وممارساتها ونتائجها، كلما أفرزت صناديق الاقتراح نتائج لا تضعهم في المقدمة، حينما فازوا سنة 2011، تغاضوا عن جميع الملاحظات التي سجلها المراقبون، وقالوا أن الانتخابات جرت ولأول مرة في التاريخ، في جو ديمقراطي و أن الشعب اختارهم وهم من يمثلونه، بينما كانوا قبل ذلك يبررون دوما هزائمهم بغياب نفس الديمقراطية و الشفافية والنزاهة التي يتغنون بها، نفس الأسطوانة تكررت ها بعد سقوطهم من الطابق “السابع عشر” سنة 2021، ليعلنوا من جديد كفرهم بتلك الديمقراطية التي وضعتهم في مراتب متأخرة.
من جهة أخرى، فحزب العدالة والتنمية يتعامل مع الحقوق و الحريات الفردية و حرية التعبير وغيرها من مستلزمات الديمقراطية، بمنطق الاصطفاف الإيديولوجي “معنا أو مع أعدائنا”، و الجميع يتذكر شعارهم الشهير بعد متابعة عبد العالي حامي الدين “لن نسلمكم أخانا”، وعندما إعتقل شباب من الحزب بسبب تمجيدهم للإرهاب و إشادتهم بمقتل السفير الروسي أندري كارلوف بتركيا سنة 2016، دافع عنهم بنكيران ووصفهم ب”ضحايا صراعه السياسي مع خصومه” خلال فترة ما سماه ب”البلوكاج الحكومي”، لكنه لم يدافع عن معتقلي الرأي والتعبير وبعض المعتقلين السياسيين الذين كانوا يقبعون بالسجن آنذاك بتهم لا تصل إلى مستوى “تمجيد الإرهاب”، باعتباره رئيسا لحكومة جميع المغاربة. و فيما يتعلق بالحريات الفردية تعامل الحزب بمنطق تبريري و “تمويهي” كلما تعلق الأمر بموالين له أو منتمين للتنظيم، مع عدم الدفاع عن المنتمين لتوجهات وتنظيمات أخرى، بل إدانتهم باسم الأخلاق أحيانا عبر جناحه الدعوي “التوحيد والإصلاح”، وملف بنحماد وفاطمة النجار مثال حي على ذلك، بل إن بنكيران حينما دافع عن إحدى مناضلاته، حاول اللعب على الكلمات حينما قال أن “قضيتها تتعلق بقرار شخصي و ليس بالحريات الفردية”، وذلك حتى لا يحسب عليه أنه يدافع عن “الحريات الفردية” حتى لا يظهر أنه يتعارض مع مرجعيته وشعاراته الرنانة، دون أن نتحدث عن بعض الممارسات اللاديمقراطية في تدبيرهم، خصوصا ما يتعلق بالتعيينات بالمناصب العليا في إطار ما سمي حينها ب”أخونة الدولة”.
كما أن التنظيم دأب على الوقوف ضد كل توجه حداثي يسعى لترسيخ ديمقراطية حقيقية غير مجزأة، كما وقع سنة 2004 مع مدونة الأسرة التي أعطت حقوقا واسعة للنساء، لقد وقفوا ضدها قبل التحكيم الملكي، وإلى حدود اليوم يتحدثون عن حقوق ومساواة من خارج مبادئ الديمقراطية، و قبل أسابيع أكدت عزيزة البقالي رئيسة منتدى الزهراء للمرأة المغربية، في مقال نشر على الموقع الرسمي للحزب تحت عنوان ” بعد 18 سنة من تطبيق مدونة الأسرة، هل حان وقت تعديلها”، أن “التعديلات مهما كانت طبيعتها، ف”نحن متمسكون بديباجة المدونة، لأنها تنص صراحة أنها لا يمكن أن تحل حراما أو تحرم حلالا… نريد تعديلا يتلاءم مع أصالة وهوية المجتمع المغربي” وهذا ليس سوى مقدمة لمقاومة قيم الحداثة والمساواة.
جماعة العدل والإحسان
إن المنطلقات الفكرية للجماعة مبنية على كتابات مؤسسها عبد السلام ياسين، وتهدف حسب أدبياتها، إلى العودة إلى قيم المجتمع الإسلامي، وبلوغ نظام قائم على الخلافة على منهاج النبوة، نظام مبني على الشورى كمرتكز أساسي في أفق “مقاومة الكفر”، إن الجماعة لا تخفي رفضها للديمقراطية لصالح مفهوم “الشورى”، وهي تتحدث عن “جماعة المسلمين” مكان المجتمع المدني، والحقوق الشرعية مكان المواطنة، بالإضافة إلى ربط الدولة الإسلامية بالدعوة، وتغيير مبدأ فصل السلط وتوازنها بثنائية رجال الدعوة أو أهل القرآن وعلماء الأمة الذين يمثلون السلطة التشريعية حسب الجماعة، و رجال الدولة أهل السلطان والحكام الذين يمثلون السلطة التنفيذية من جهة أخرى، لكن بشرط أن تقوم هذه العلاقة على أساس رقابي يقوم به رجال الدين من أجل إقامة الدين، أي أن رجال الدين يتحكمون في السلطة التنفيذية. كما أن مشروع الجماعة لا يهتم بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية ولا يقبل منظومة حقوق الإنسان كما هو متعارف عليها دوليا، وبالتالي فالأهم كما جاء على لسان عبد السلام ياسين هو أن: “جماعة العدل والإحسان لا تعارض حكام الجبر معارضة الأحزاب على مستوى تدبير المعاش والاقتصاد، وإنما تعصيهم لأنهم خرجوا عن دائرة الإسلام إلى أن يتوبوا توبة عمر بن عبد العزيز”، وهنا تنصب الجماعة نفسها ممثلة لله في الأرض، فتحكم على النظام بالكفر و تدعوه إلى التوبة، وهذا ليس غريبا على تنظيمات الإسلام السياسي التي تمارس الوصاية على الناس والمؤسسات و كل الكائنات، متقمصة دورا لم يمنحه لها أحد، خارج مبادئ النسبية والعقلانية و المساواة، فمساواة الناس أمام الله تعني أن لا أحد له الحق في الحكم على الآخر وتقييم إيمانه.
إن رفض الجماعة للديمقراطية نابع بالنسبة لها من كونها نقيض للاستبداد وليست نقيضا للكفر، وما يهمها هو محاربة الكفر وليس الاستبداد، ونقيض الكفر يكمن في الشورى، ورغم محاولة الجماعة تبرئة نفسها من العنف، ففي مرجعيتها نلمس هذا التوجه بوضوح، ولو دأبت دوما على اللعب بالمفاهيم والكلمات في إطار ممارسة “التقية”، تفاديا لتأليب الدول العظمى والمجتمع الدولي ضدها، أو تصنيفها ضمن الجماعات الإٍرهابية، لذلك فعوض استعمال مصطلح “الثورة” تتحدث الجماعة عن “القومة” التي تعني إعداد الأمة المجاهدة والراشدة التي تقرر مصيرها وتفرض وتدبر قرارها المتحرر من الخرافة و فلسفة الإلحاد، أي إعداد الإنسان و تهييئه لتغيير المنكر، “لأن من لا يعرف المنكر في أسبابه ودخائله وماضيه وحاضره وحماته، لا يغيره”، والتغيير بعد ذلك عبر “العصيان” الذي يقول عنه مؤسس الجماعة: “عندما تتألف الموجة العارمة يستطيع المؤمنون إيقاف الفساد بالعصيان الشامل، العصيان وضع يد التنفيذ في مواضعها الشرعية، و العنف وضعها بميزان الهوى والغضب”، وفي كتاب “الإسلام أو الطوفان” دعا ياسين إلى التوبة، و منع الأحزاب السياسية، وخلق مجلس منتخب إسلاميا يستشير في أمره رجال الدعوة، يكون هو من بينهم.
إننا هنا أمام جماعة لا تؤمن بالديمقراطية و لا بالتدافع السياسي، بل ب”العصيان” ضد الكفر، من أجل إقامة دولة متخلفة يتم فيها التمييز بين الناس بسبب معتقداتهم، وتهضم حرياتهم و يتسلط عليهم فيها رجال الدين خارج منطق المساواة والحرية والعدالة، وهذا ليس غريبا على جماعة تؤمن بالأحلام و “الرؤيا” على حساب العقلانية والعلم والنسبية، وما أعلنت عنه سنة 2006 يبين بالواضح أننا أمام تنظيم خارج التاريخ والعقل. لكن نفس الجماعة ووفاء ل”التقية” كتاكتيك لها، لا تتأخر في تسويق صورة “الاعتدال” و “مناهضة العنف” حول نفسها، وكذا استغلال ما تتيحه الآليات الديمقراطية وثقافة حقوق الإنسان لحشد الدعم وتسول تعاطف الدول العظمى أملا في تشجيعها ل “قوى الإسلام المعتدل” لمواجهة “التيارات المتطرفة”، كما كانت تفعل نادية ياسين، حينما جابت الدول الغربية لتشارك في ندوات ولقاءات لكسب ود الرأي العام الغربي (دار الكفر)، حتى صارت ابنة مؤسس الجماعة التي تتقن الفرنسية والإنجليزية، تلقب ب”محبوبة الإعلام الغربي”، وهي التي تلقت تعليمها بمدارس البعثة الفرنسية في تناقض تام مع مرجعية أبيها وشعارات الجماعة، ومن يقرأ كتاب “تنوير النساء” سيطلع على حقيقة النظرة الدونية للجماعة تجاه النساء.
اليسار وأزمة الديمقراطية
إن التشرذم التنظيمي من بين مظاهر أزمة اليسار المغربي، وهذا التشتت بدوره، ليس سوى مظهرا من مظاهر غياب الديمقراطية الداخلية والتدافع السياسي الحر، وعدم قدرة أحزابه على تدبير الاختلاف داخلها بشكل ديمقراطي، بالإضافة إلى عوامل أخرى، وما يحدث اليوم بالمطبخ الداخلي لأحزاب يسارية عريقة، يبين لنا بالملموس مدى تحليها بمبادئ الديمقراطية، أحزاب انتقلت من تنظيمات قوية بامتدادات كبرى إلى أحزاب ميكروسكوبية، قبل أن ينتبه بعضها إلى أن الاعتماد على المثقفين والمناضلين والبرامج السياسية والشرعية التاريخية، لم يعد ناجعا أمام انتصار الأعيان وأصحاب “الشكارة” ونجاحهم في حسم المعركة الانتخابية، فانخرطت هي الأخرى (حزبين على الأقل) في استمالة نفس الفئة والاغتراف من نفس الممارسات، سعيا إلى حماية تنظيماتها من الزوال، والحفاظ على نزر من المقاعد والمناصب التي صارت هدفا ذا أولوية للكثير من قادتها.
أزمة اليسار طبعا تتجاوز الجانب التنظيمي إلى أزمة فكرية وأزمة مشروع، أدخلته في حالة جمود، وحدت من تأثيره داخل المشهد السياسي وفي قلب الجماهير الشعبية، ولا شك أن الطابع النخبوي و التشبث بالإيديولوجية اليسارية الكلاسيكية التي لم تستطع التأقلم مع تغير العقليات و التطور الذي يعرفه العالم، سبب من أسباب الأزمة، أزمة فكرية رافقها ضعف في الديمقراطية الداخلية مع استمرار تحكم نفس الجيل في تلابيب أمورها، مع استنساخ نخب جديدة تربت على منهج ميكيافيلي مصلحي واضح، حتى صارت من بين التنظيمات الأكثر إقبالا على تعديل القوانين الأساسية لإتاحة الفرصة أمام الزعيم للخلود في القيادة، وصار تكرار أسطوانات الشرعية التاريخية رديفا لاستمرار شرعية نفس النخب على رأس هذه الأحزاب.
إن تشرذم اليسار أدى إلى ظهور تنظيمات تحول المشهد السياسي إلى ساحة وغى تتخلله معارك حول الشرعية، ففيدرالية اليسار تتجذر على الاتحاد والاشتراكي والتقدم والاشتراكية، والنهج الديمقراطي يشكك في يسارية أحزاب فيدرالية اليسار، لتأتي الفصائل الطلابية لتطعن في الجميع وتعلن نفسها الممثل الشرعي للمشروع الاشتراكي، أما الاتهامات المرتبطة بما يسمى ب”تمخزنيت” فحدث ولا حرج. دون الحديث عن ممارسة الأبوية و خطاب التفوق و تمثيل الشعب والطبقة العاملة، دون أن ننسى سلوك الهيمنة والحشد واستعمال جميع الأساليب للاستيلاء على عدد من التنظيمات الحقوقية والنقابية و الجمعوية خارج مبادئ الديمقراطية.
ومن بين سلوكات اليسار غير المفهومة من طرف الكثير من المتابعين، انخراط بعضها في تحالفات هجينة مع أحزاب تعتبرها تاريخيا تنظيمات رجعية صنعت من أجل ترويض اليسار نفسه في سنوات الرصاص، بمرجعيات تتناقض مع تصور اليسار للمجتمع والديمقراطية و منظومة الحقوق والحريات، كما حدث بين التقدم والاشتراكية و العدالة والتنمية من جهة، و النهج الديمقراطي والعدل والإحسان من جهة أخرى، في الحالة الأولى في إطار تحالف حكومي هجين، و الثانية من أجل بناء جبهة ضد “الاستبداد” حسب ما يصرحون به، وفي هذه الحالة يستغرب الكثيرون التقاء جماعة تؤمن ب”القومة” و”الخلافة” لمناهضة الكفر وأعداء الدين والقوى العلمانية، ومنها النهج الديمقراطي نفسه، الذي يقول من جانبه أنه يؤمن بالحداثة و الحريات الفردية وعلى رأسها حرية العقيدة والعلاقات الرضائية خارج إطار الزواج، وحقوق الأقليات وغيرها؟ فماذا سنسمي تحالف أحزاب تقول أنها تؤمن بالديمقراطية مع أحزاب معادية لكل ما هو ديمقراطي؟ و ما شكل هذا المجتمع و هذا المشروع المجتمعي الذي تبشرنا به هذه التحالفات الغريبة، اللهم إن كان الهدف ليس بلوغ الديمقراطية في حد ذاتها، بل فقط نكاية في النظام السياسي ولتذهب الديمقراطية إلى الجحيم.
وهنا سأعود إلى الوراء، حينما خرج علينا الأمين العام السابق حزب الطليعة الديمقراطي الاشتراكي، ليطعن في الحقوق الثقافية والتنوع اللغوي حين صرح قبلا تعديل الدستور سنة 2011 أن “العربية يجب أن تبقى اللغة الرسمية الوحيدة في الإدارة وفي علاقة الإدارة بالمواطنين”، و أن “ترسيم الأمازيغية سيضعنا أمام مأزق كبير، فتعدد اللغات يمكن أن يؤدي إلى الانفصال كما حدث في العراق، وهذه المسألة لا علاقة لها بحقوق الإنسان”، السيد بنعمر نفسه وحزبه من أكثر التنظيمات التي لا تتوقف عن الحديث عن “الديمقراطية” و “الحرية” و “المساواة”، والحديث عن اليسار هنا مرده كونه تيارا فكريا علمانيا، وهو مؤهل بالنظر لتاريخه، للمساهمة في ترسيخ قيم الديمقراطية، لكن بدءا بدمقرطة تنظيماته وسلوك زعمائه.
الثقافة الديمقراطية… بيت القصيد
إننا سنبالغ إذا حاولنا تحميل مسؤولية ضعف الديمقراطية للأحزاب أو لأية جهة بعينها بشكل حصري، فهذه التنظيمات ليست سوى مجموعة من الأفراد هم بدورهم نتاج تنشئة اجتماعية معينة و تربوا داخل ثقافة محددة، إننا لم نستوردهم من عالم آخر، وحتى الذين يمنحون الأصوات مقابل المكاسب المادية والمصالح الشخصية أو في إطار “دغدغة العواطف” باستغلال المقدس المشترك، أو الإنتماء القبلي، هم مواطنون يعيشون بيننا، منا وإلينا، ترعرعوا في نفس مداشرنا وأحيائنا، تعلموا في نفس مدارسنا، وكبروا على نفس المحتويات الإعلامية لقنواتنا، و يصلون في نفس مساجدنا.
إن غياب السلوك المدني الديمقراطي، نعيشه يوميا ونشاهده بدون انقطاع، فذلك الصحفي الذي يحصل على رشوة لتبييض وجه شخص أو شركة أو مؤسسة، على حساب البحث عن الحقيقة وتنوير الرأي العام، و ذلك الطبيب الذي يجري لك عملية دون أن تكون محتاجا إليها، لاستكمال مشروع شخصي له، على حساب أخلاقيات وسمو مهنة الطب، و ذلك الموظف الذي يطلب منك بضع دريهمات لمنحك شهادة هي من حقك، على حساب تطور الإدارة وتجاوز بيروقراطيتها، و ذلك المواطن الذي يطلب تشغيل ابنه بمقابل مادي أو عيني على حساب الاستحقاق، وذلك الطالب الذي يشتري الديبلومات و يمارس الغش في الامتحانات، و ذاك الأستاذ الذي يمنح الميزات مقابل الجنس، مثلهم مثل ذلك المرشح الذي يوزع المال للحصول على مقعد برلماني، على حساب التباري الديمقراطي، و بالفعل لن يكون قادرا على تنفيذ رغبته بطريقته لو لم يكن هناك مواطن يطلب مبلغا ماليا على حساب المصلحة العامة، ولو أردنا هنا استحضار جميع الأمثلة لألفنا موسوعات لا تعد ولا تحصى، ولن نستطيع الخروج من هذه المظاهر التي تكرس غيابا أو ضعفا للقيم النبيلة وعناصر مقاومة لمتطلبات الديمقراطية، أما التكفيريون و أصحاب “شرع اليد”، فهم جيوب مقاومة خطيرة ضد الاستقرار والسلم، وعوائق أمام سبل العيش المشترك في عالم قانونه الأساسي تنوع القوميات واللغات والأديان والمعتقدات والألوان…
إن أسباب ضعف أو غياب الثقافة الديمقراطية مجتمعيا، لها جذور وعوامل كثيرة، من بينها رسوخ البنى والذهنيات الموروثة المغلقة، والتقاليد الذكورية والعقليات الأبوية المعادية للحريات الفردية، وهذا يرجع بدوره لدواعي متنوعة من بينها تأثير رياح “التكفير” و “الوصاية” الآتية من الشرق، والأمية وعدم التمييز بين الخصوصيات الدينية والثقافية من جهة، وبين متطلبات الدولة الحديثة، و حتمية التوفيق بينهما، في سبيل الانخراط في المجتمع الدولي و القيم الكونية التي تعد نتاجا لتراكمات ساهمت فيها جميع الثقافات والمجتمعات والحضارات عبر التاريخ، كما تعكس تدهور أدوار مؤسسات التنشئة الاجتماعية والانفتاح غير المؤطر على التكنولوجيات الحديثة بمناعة ضعيفة.
وضع لا يمكن تصحيحه سوى من خلال تثبيت الثقافة الديمقراطية في العقليات، من خلال إصلاح جذري للتعليم، لنكون أمام منظومة تربوية مبنية على الحرية والإنفتاح والتعايش، وترسخ الحقوق والحريات المتساوية لجميع أفراد المجتمع، فلا ديمقراطية أبدا بدون الإيمان بالإختلاف و ب”التسامح المتبادل” بين فئات المجتمع باختلافاتها اللغوية والدينية و السياسية والإيديولوجية، وهي تعاليم يجب أن تكون متماهية مع الارتباط بالوطن وبقضاياه وخصوصياته الثقافية والحضارية، وجعل التنوع مقويا للوحدة الوطنية و للديمقراطية في نفس الآن، وكل من يعتقد أن تغيير القوانين والدساتير كفيل لوحده بدمقرطة المجتمع فهو خاطئ، نعم هذا مطلب ملح لتوسيع هامش الديمقراطية، لكن إذا لم يكن المواطن الذي سيصير وزيرا وبرلمانيا وأستاذا وصحافيا وقاضيا و فاعلا مدنيا، مواطنا ديمقراطيا، فكيف سنبني مجتمعا ديمقراطيا؟ ومن سيطبق هذه القوانين الديمقراطية؟، خلاصة القول أن لا ديمقراطية بدون ديمقراطيين، ولا ديمقراطيين بدون تربية ديمقراطية، وهذا ما لا يمكن نيله سوى عبر ترسيخ القيم النبيلة عبر مؤسسات التنشئة الاجتماعية، و مباشرة ثورة ثقافية، وإصلاح ديني لتفكيك البنى والذهنيات الموروثة المغلقة، لأن الديمقراطية لن تستطيع الاستمرار في ظل هيمنة هذه البنى المعادية للحريات الجماعية والفردية. وهذه مسؤولية مشتركة بين مؤسسات الدولة و الأحزاب وجمعيات المجتمع المدني والمثقفين و الفقهاء والمواطنين وكل التيارات والحساسيات الموجودة في المجتمع.
إن تحقيق هذا الرهان عبر مقاربة تشاركية، ممكن وحتمي، دون فقدان قيم “تمغربيت” و خصوصياتنا الثقافية والحضارية، ولنا في اليابان نموذجا ساطعا لهذا التوازن، وعلى المستوى الديني فبناء علاقة مبنية على “التعاون” و “التسامح” بين المؤسسة الدينية و مؤسسات الدولة مطلوب، لمناهضة التطرف والطائفية، وهذا لن يتم سوى بإشراف حصري لمؤسسة إمارة المؤمنين على تدبير الشأن الديني للمؤمنين، مع ضمان مساواة الجميع أمام القانون بغض النظر عن معتقداتهم، وكون أمير المؤمنين هو في نفس الوقت رئيس الدولة يسهل بلوغ هذا التناغم والتوازن.