ما سبب تعصب البخاري وعدوانِه على الإمام أبي حنيفة؟
إن الصورة المرسومة في أذهاننا عن بعض الرموز الدينية بيضاءُ صافية، فهم السلف في الاعتدال والصدق والموضوعية، وهم المتواضعون المنفتحون المتقبّلون للرّأي الآخر، المحترمون للمدارس الفقهية الأخرى، المعظّمون لجميع المجتهدين والفقهاء المفتين…
إنها صور وردية جميلة، رفعت الشيوخ من فقهاء ومحدثين مكانا عليّا، وأعطتهم القداسة والهيبة والجلال، فحازت أفكارهم العصمة العملية والتسليم.
وهكذا استوطنت الأمراضُ العقلَ المسلم.
وإن تنزيل الرموز منازلهم، وكشف تعصبهم وتشددهم، وبيان نفسياتهم الحاقدة أحيانا، أولُ الطريق لإصلاح العقل المسلم وتحريره من الأمراض المتوارثة.
والإمام محمد بن إسماعيل البخاري (ت256 هـ) صاحب الجامع الصحيح الشهير ب: صحيح البخاري، الذي يُعد عند أهل طائفتنا أصحَّ كتاب بعد القرآن الكريم، وتُرى أحاديثه وحيا يوحى، ويُحكم لرجالاته بالعدالة والضبط والاستقامة ومجاوزة القنطرة لكونهم رجال الصحيح… واحد من الشخصيات المَشيخية التي سوّقوا لها صورة ملائكية طاهرة نقيّة، بينما كان في الواقع رجلا كالرجال، يتعصّب ويحقد ويتطرّف ويقلّد ويحتقر ويتبع الهوى ويتكاسل…
للبخاري رحمه الله كتاب في الأخلاق أسماه: “الأدب المفرد”، من مباحثه: بَابُ لَيْسَ الْمُؤْمِنُ بِالطَّعَّانِ – باب إجلال الكبير – باب تسويد الأكابر – باب سباب المسلم فسوق…
وله في الجامع الصحيح “كتاب الأدب” كذلك.
لكنه رحمه الله فشل في التطبيق والأجرأة والتنزيل، حيث وجدناه في موقفه من الإمام أبي حنيفة النعمان (ت150 هـ) وأصحابه الكبار -مثل أبي يوسف يعقوب بن إبراهيم القاضي ومحمد بن الحسن الشيباني- بعيدا عن الآداب والأخلاق التي نادى بها وحضّ عليها.
مئة مثل البخاري لا يعدلون أبا حنيفة فقها وثقة وضبطا وقربا من عهد النبوة.
أبو حنيفة كان متشددا في قبول الأحاديث، مجتهدا يُشغّل عقله ورأيه، فيردّ الروايات التي يراها بعقله المؤمن لا تستقيم والقرآن الكريم أو العقل السليم أو الخلق القويم، وتبعه أصحابه الكبار، فسُمّيت مدرسته العراقية الكوفية مدرسة الرأي، أي الاعتماد الكبير على الاجتهاد والنظر والفكر بعيدا عن المرويات والأخبار التي كثرت بسبب الوضع وفسدت بالتحريف.
البخاري صناعة المدرسة الحديثية النقلية الحفظية الحاقدة على مدرسة الرأي والنظر، لذلك وجدناه متحاملا عليها مشنّعا متعصبا كالموج الهائج، فلم يسلم منه أبو حنيفة ناهيك عن أصحابه.
مثال تقريبي: الشيخ محمد الغزالي أو الدكتور عدنان إبراهيم زنديق متحلّل من الدين، أو ضالّ مبتدع منحرف عن الجادة، عند البخاريين المحافظين على الموروث الحديثي الفقهي المذهبي، لأنه صاحب رأي ونظر وتفكير حر، فهو مثل الإمام الأكبر أبي حنيفة، وهم أشبه بالبخاري المتعصب المتشدّد.
نعم يا سادة،
البخاري الروائي -صاحب الأدب المفرد- لم يتورّع عن اتهام أبي حنيفة بالكفر والضلال والابتداع، ناهيك عن تجريح روايته، لأن حُويصلته لم تتسع لآراء أبي حنيفة وأفكاره، ولأن البخاري مقلّد يردّد أقوال بعض المنتمين للمدرسة الحديثية قبله ويتلقاها بالتسليم والتبجيل، دون أن يكلّف نفسه عناء دراسة تلك الأفكار وعرضها على القرآن الكريم أو العقل السليم وأصول الاجتهاد القويم.
وما القصد من هذا التحقيق؟
الأمة اليوم بحاجة لتنزيل رموزها الماضين منازلهم البشرية حتى تتخلّص من تقديس اجتهاداتهم وأحكامهم.
البخاري الحاقد على أبي حنيفة وأصحابه، المتساهل في الطعن على إيمان الإمام الأعظم والتحقير من رتبته بين الفقهاء المجتهدين اغترارا ببعض الروايات الواهية، والشهادات النابعة من التنافس والغيرة، لا يمكن التسليم لكل أحكامه ولا الاطمئنان التام لصحيحه، فالمذهبية والتعصب والمجازفة آفات تكشف أن صاحبها يبقى بشرا قد يكذب في أحكامه حتى.
لو لم يكن في البخاري إلا هذا العيب المتمثّل في موقفه القبيح من الإمام أبي حنيفة لكفى للتوقف في أحكامه والشك في تصحيحه وانتقائه للأحاديث، إذ ما قرّره في حق الإمام الأعظم قد يدخل في الفجور والفسق المسقطين للعدالة، ولأنه موقف مستمد من التقليد لبعض خصوم أبي حنيفة، يكشف لنا أن جانبا من تصحيحه وتضعيفه لأحاديث الصحيح نابع من التقليد في توثيق والتجريح للرواة والرجال.
شيطنةُ وتحقيرُ أبي حنيفةَ في تواريخ البخاري وصحيحه
يخرج الجاهل بقدر الإمام الأعظم، غيرُ الفطنِ لأحقاد وتعصب الروائيين، من تراجم البخاري لأبي حنيفة بأن الأخير دجال مدسوس على الإسلام، جاهل لا علم له ولا حظ من الفقه، مجروح الرواية مردود الشهادة، وبالتالي فالبخاري أعلم وأفقه وأضبط وأتقى…
أبو حنيفة في التاريخ الكبير (8/81) ت 2253:
قال البخاري: نعمان بْن ثابت أَبُو حنيفة الكوفِي مولى لِبَنِي تيم اللَّه بْن ثعلبة. روى عنه عباد بْن العوام وابْن المبارك وهشيم ووكيع ومُسْلِم بْن خَالِد وأَبُو مُعَاوِيَة والمقري، كَانَ مرجئا، سكتوا عنه وعن رأيه وعَنْ حديثه، قَالَ أَبُو نعيم: مات أَبُو حنيفة سنة خمسين ومائة. هـ
نخرج من هذه الترجمة بأن أبا حنيفة معدود عند البخاري في (الفرقة المبتدعة الضالة): “المرجئة”، فيكون بذلك ضالا منحرفا عن أهل السنة والحديث، وهي تهمة ثقيلة.
ومن جهة ثانية، فأبو حنيفة مسكوت عن شخصه ورأيه وحديثه، أي لا يعتد به أو برأيه أو بحديثه.
وهذا غير صادق ولا صحيح، وكأن البخاري لا يعرف ثناء العلماء قبلَه على أبي حنيفة، ويجهل كونه الفقيه المجتهد الذي لديه أكثر الأتباع إذ انتشر مذهبه ورأيه في غالب بلاد المسلمين قبل ولادة البخاري نفسه.
والعجيب أن يكون أبو حنيفة مرجئا مسكوتا عنه وعن رأيه وعن حديثه، ثم يروي عنه الحفاظ المشاهير ويتخذونه شيخا، ويذكر البخاري منهم: عباد بْن العوام وابْن المبارك وهشيما ووكيعا ومُسْلِم بْن خَالِد وأَبُا مُعَاوِيَة والمقري.
أما الحافظ المزي، فعدّد لأبي حنيفة من التلاميذ والرواة أكثر من سبعين، سائرهم حفاظ وفقهاء مشاهير ثقات عند البخاري ذاته.
فهل نصدق البخاري أم الواقع؟
أبو حنيفة في التاريخ الأوسط (2/43):
قال البخاري: سَمِعت إِسْمَاعِيل بن عرْعرة يَقُول: قَالَ أَبُو حنيفَة: جَاءَت امْرَأَة جَهم إِلَيْنَا هَاهُنَا فأدبت نِسَاءَنَا. سَمِعت الْحميدِي يَقُول: قَالَ أَبُو حنيفَة: قدمت مَكَّة، فَأخذت من الْحجام ثَلَاث سُنَن، لما قعدت بَين يَدَيْهِ قَالَ لي: اسْتقْبل الْقبْلَة، فَبَدَأَ بشق رَأْسِي الْأَيْمن، وَبلغ إِلَى العظمين. قَالَ الْحميدِي: فَرجل لَيْسَ عِنْده سنَن عَن رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلا أَصْحَابه فِي الْمَنَاسِك وَغَيرهَا، كَيفَ يُقَلّد أَحْكَام الله فِي الْمَوَارِيث والفرائض وَالزَّكَاة وَالصَّلَاة وَأُمُور الْإِسْلَام؟ هـ
الغرض من هذه النقول كلها هو تحقير علم أبي حنيفة وفقهه على طريقة المراهقين وليس الراسخين في العلم والتقوى والورع.
إسماعيل بن عرعرة ليس له إلا راو واحد هو البخاري، ولا توجد له أي ترجمة بعد طول بحث وتفتيش، ولم يدرك أبا حنيفة، فما حكاه البخاري عنه لينسب بطريقة ضعيفة غبيّة فجّة تأثُّرَ أبي حنيفة بجهم بن صفوان المعدود ضالا مبتدعا عند المحدثين والفقهاء بمن فيهم أبو حنيفة ذاته الذي لديه عبارات شديدة في الجهم، لا يثبت من جهة الإسناد.
وعلى فرض صحة القصة،
فهل يلزم أن تكون زوجة جهم بن صفوان جهمية؟
وما علاقة التأديب بالعقائد والكلام؟
وهل يلزم من تأثر زوجة أبي حنيفة بالفكر الجهمي أن يتأثر أبو حنيفة أيضا؟
أما الحميدي عبد الله بن الزبير صاحب المسند وشيخ البخاري فإنه حافظ كبير، لكنه لم يُدرك أبا حنيفة ولا رآه، أي أنه لم يحضر قصة أبي حنيفة مع الحجام، لكنه دلّس علينا حين رواها دون ذكر الواسطة التي يمكن أن تكون شخصا كذابا أو حاقدا حاسدا.
وهل احتراف الرجل في القرن الأول أو الثاني للحجامة يمنع معرفته بالسنن والشريعة خاصة وأنه مكي؟
وعلى فرض صحة القصة، فهل وقعت في شباب أبي حنيفة قبل تفرّغه للفقه؟ أم في شيخوخته ومشيخته؟
وهل جهلُ أبي حنيفة -قبل القصة- بأن استقبال القبلة عند الحِلاقة، والبداءة بالشق الأيمن، وقطع الشعر إلى العظمين من السنة النبوية يترتّب عليه جهل أبي حنيفة بالْمَنَاسِك والْمَوَارِيث والفرائض وَالزَّكَاة وَالصَّلَاة وَأُمُور الْإِسْلَام كما يستنتج الحافظ الحميدي بسذاجة وتعصّب؟
لقد أزرى الحميدي بنفسه، ووقع في الإثم تعصبا وتحاملا، وشاركه البخاري تقليدا.
وهذه رواية تحاشاها البخاري أو جهلها، تكشف ضغينة الحميدي وفجوره في الخصومة:
قال الخطيب في تاريخ بغداد ت بشار (15/561): أخْبَرَنَا ابن رزق، قَالَ: أَخْبَرَنَا عثمان بن أَحْمَد، قَالَ: حَدَّثَنَا حنبل بن إسحاق، قال: سمعت الحميدي، يقول لأبي حنيفة إذا كناه: أَبُو جيفة، لا يكني عن ذاك، ويُظهره في المسجد الحرام في حلقته والناس حوله. هـ
سند هذه الحكاية -بمعايير المحدثين- في غاية الصحة، فإنه متصل مسلسل بالحفاظ الثقات المصنفين في الرجال والتاريخ، وهم:
أولا: شيخ الخطيب البغدادي هو محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن رزق أبو الحسن البزاز المعروف بابن رزقويه (ت 412)، وثّقه البرقاني والخطيب، وهو الإِمَامُ المُحَدِّثُ، المُتْقِنُ، المُعَمَّرُ، شَيْخُ بَغْدَاد، كما وصفه الذهبي. (تاريخ بغداد ت بشار (2/211) وسير أعلام النبلاء ط الحديث (13/50).
ثانيا: شيخ ابن رزقويه هو أَبُو عَمْرٍو عُثْمَان بْن أَحْمَد بْن عَبْد اللَّه الدقاق المعروف بابن السماك، وثقه الدارقطني وعمر بن أحمد الواعظ والخطيب. وقال الذهبي: الشَّيْخُ الإِمَامُ المُحَدِّثُ المُكثِرُ الصَّادِق، مُسنِدُ العِرَاقِ. (تاريخ بغداد (13/190) وسير أعلام النبلاء ط الحديث (12/49))
ثالثا: شيخ ابن السماك هو حَنْبَل بْن إسحاق بْن حَنْبَل أَبُو علي الشيباني، ابْن عم أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن حَنْبَل وأحد كبار تلامذته [الوفاة بين: 271 – 280 ه]. وثقه الخطيب والدارقطني. وهو عند الذهبي: الإِمَامُ، الحَافِظُ، المُحَدِّثُ، الصَّدُوْقُ، المُصَنِّفُ. ( تاريخ بغداد (9/217) وطبقات الحنابلة لأبي يعلى (1/143) والتقييد لابن نقطة الحنبلي (ص: 258) وتذكرة الحفاظ للذهبي (2/ 133) وسير أعلام النبلاء ط الرسالة (13/51) )
وتكشف هذه القصة الوجهَ القبيح للتعصب والمذهبية، وتؤكد حقَّنا في عدم الاطمئنان للشخصيات التاريخية المحسوبة على الفقهاء والمحدثين من طينة الحميدي شيخ البخاري.
(أبو جيفة)، هكذا في المسجد الحرام، دون حياء ولا خوف من الله، فضلا عن مراعاة السامعين الذين قد يكون أتباع أبي حنيفة منهم.
ومع ذلك، فالحميدي موصوف – كما في تذكرة الحفاظ وسير الذهبي – بالإمام العَلَم الحافظ الفقيه شيخ الحرم من كبار أصحاب الشافعي…
وليته أخذ من شيخه الشافعي أدبَه وإنصافه أبا حنيفة.
أبو حنيفة فقيه الأمة وإمامها اتفقتَ معه أو اختلفت، أحببت أو كرهت، شهد له بذلك معاصروه المنصفون رغم اختلافهم معه، لكن البخاري انتقى ما يقوّي هواه ويشفي غليله.
أبو حنيفة في الضعفاء الصغير (ص: 132) ت388:
منهج الأوائل المُصَنفين في الضعفاء والمجروحين يقوم على ذكر أسمائهم ثم عرض الأدلة والبراهين على سبب ضعفهم وتجريحهم.
والبخاري أوّل مصنّف في الرجال يبالغ في تجريح أبي حنيفة من جهة معتقده ورأيه.
والحافظ ابن عبد البر من الأذكياء الذين تفطنوا لمغالاة البخاري وجنايته، فقال في كتاب الانتقاء في فضائل الثلاثة الأئمة الفقهاء (ص: 149): كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ اسْتَجَازُوا الطَّعْنَ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ لِرَدِّهِ كَثِيرًا مِنْ أَخْبَارِ الآحَادِ الْعُدُولِ لأَنَّهُ كَانَ يَذْهَبُ فِي ذَلِكَ إِلَى عَرْضِهَا عَلَى مَا اجْتَمَعَ عَلَيْهِ مِنَ الأَحَادِيثِ وَمَعَانِي الْقُرْآنِ، فَمَا شَذَّ عَنْ ذَلِكَ رَدَّهُ وَسَمَّاهُ شَاذًّا، وَكَانَ مَعَ ذَلِكَ أَيْضًا يَقُولُ الطَّاعَاتُ مِنَ الصَّلاةِ وَغَيْرِهَا لَا تُسَمَّى إِيمَانًا… فَمِمَّنْ طَعَنَ عَلَيْهِ وجرحه أَبُو عبد الله مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيُّ فَقَالَ فِي كِتَابِهِ فِي الضُّعَفَاءِ وَالْمَتْرُوكِينَ أَبُو حَنِيفَةَ النُّعْمَانُ بْنُ ثَابِتٍ الْكُوفِيُّ… هـ
وحُجج البخاري –غفر الله له- في تجريح أبي حنيفة، بالإضافة إلى ما نقله في الأوسط والكبير عن شيخه الحميدي، ثلاثة أقوال منقولة عن رجلين أدركا أبا حنيفة، هما سفيان بن سعيد الثوري، ومحمد بن مسلمة، نذكرها كما جاءت في الضعفاء مع المناقشة، مع الاستباق إلى القول بأن أقوال الأقران المستندة إلى الرأي والنفسيات المذهبية لا تقوم عند عقلاء المحدثين والنقاد المنصفين الورعين دليلا على التجريح، لكن البخاري لم يكن منصفا ولا ورعا في موقفه من أبي حنيفة، بل حانقا مقلّدا عدوانيا:
النقل الأول: قال البخاري في الضعفاء: النعمان بن ثابت أبو حنيفة الكوفي، مات سنة خمسين ومائة، حدثنا نعيم بن حماد، ثنا يحيى بن سعيد، ومعاذ بن معاذ، سمعنا الثوري يقول: استُتيب أبو حنيفة من الكفر مرتين. هـ
لقد استتيب أبو حنيفة بتهمتي الإرجاء والقول بخلق القرآن:
قال يحيى القطان: حَدثنَا سُفْيَان قَالَ: استتاب أَصْحَاب أبي حنيفَة أَبَا حنيفَة مرَّتَيْنِ أَو ثَلَاثًا وَكَانَ سُفْيَان شَدِيد القَوْل فِي الإرجاء وَالرَّدّ عَلَيْهِم. العلل ومعرفة الرجال لأحمد (3/239)
وقال سُفْيَان الثَّوْرِيّ: قَالَ لِي حَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ: ” اذْهَبْ إِلَى هَذَا الْكَافِرِ يَعْنِي أَبَا حَنِيفَةَ فَقُلْ لَهُ: إِنْ كُنْتَ تَقُولُ الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ؛ فَلَا تَقْرَبْنَا ” في رواية: قال لي حماد بن أبي سليمان: أبلغ عني أبا حنيفة المشرك أني برئ منه حتى يرجع عن قوله في القرآن. وفي ثالث: سَمِعْتُ حَمَّادًا يَقُولُ: ” أَلَا تَعْجَبُ مِنْ أَبِي حَنِيفَةَ يَقُولُ: الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ، قُلْ لَهُ يَا كَافِرُ يَا زِنْدِيقُ ” (مسند ابن الجعد (ص: 66 و67) والسنة لعبد الله بن أحمد (1/184) والضعفاء الكبير للعقيلي (4/268) وتاريخ بغداد ت بشار (15/ 520) ).
وقال أَحْمَد بن يونس: اجتمع ابن أبي ليلى، وأبو حنيفة عند عيسى بن موسى العباسي، والي الكوفة، قال: فتكلما عنده، قال: فقال أَبُو حنيفة: القرآن مخلوق، قال: فقال عيسى لابن أبي ليلى: اخرج فاستتبه، فإن تاب وإلا فاضرب عنقه.
وقال الْوَلِيدُ بْنُ صَالِحٍ: سَمِعْتُ شَرِيكًا، يَقُولُ: «اسْتُتِيبَ أَبُو حَنِيفَةَ مِنْ كُفْرِهِ مَرَّتَيْنِ مِنْ كَلَامِ جَهْمٍ وَمِنَ الْإِرْجَاءِ» (السنة لعبد الله بن أحمد (1/204).
وقال البخاري في الكبير أن أبا حنيفة: (كَانَ مرجئا). هـ
والمرجئة فرقة مسلمة لها تفسيرها وتأويلها للقرآن والحديث، ولم تنكر شيئا من أصول الإسلام وأركانه، لكن المحدثين تطرفوا فكفّرها بعضهم، واكتفى الجمهور بكونها ضالة مبتدعة، ولم يثبت أن أبا حنيفة كان مرجئا وإن وافق المرجئة في مقولتين أو ثلاث.
والقول بخلق القرآن ليس زندقة ولا كفرا إلا عند المتنطعين، فالمطلوب من المسلم هو أن يؤمن بأن القرآن كلام الله، أما هل هو مخلوق حادث أم قديم أزلي فليس هناك ما يجعله شرطا في الإيمان وصحة الاعتقاد.
والمعتزلة هم القائلون بخلق القرآن وليس الحنفية.
ولديهم حججهم وتأويلاتهم اتفقت معها أو خالفت، من ذلك قوله تعالى في الآية 2 من سورة الأنبياء: (ما يأتيهم من ذِكر من ربهم مُحدَث إلا استمعوه وهم يلعبون)
والذكر المحدث أي الحادث الجديد المخلوق عند المعتزلة، أو القديم النازل حديثا بواسطة جبريل عند المحدثين وأهل السنة عموما.
فالأمر تأويل وتفسير لا قطع بخصوصه في القرآن ذاته.
والاتهام بالكفر والزندقة في المسألة من قلّة العقل والورع وسوء الخلق، وفتنة خلق القرآن التي جرت بين المعتزلة والسنة كانت حماقة كبيرة من الحزبين.
والمرجئة فرقة مسلمة لها تفسيرها وتأويلها للقرآن والحديث، ولم تنكر شيئا من أصول الإسلام وأركانه، لكن المحدثين تطرفوا فكفّرها، واكتفى الجمهور بكونها ضالة مبتدعة، ولم يثبت أن أبا حنيفة كان مرجئا وإن وافق المرجئة في مقولتين أو ثلاث.
والحق أن أبا حنيفة أيّد بعض الثورات على الأمويين، وامتنع عن تولي القضاء للعباسيين الذين كانوا يرون الامتناع معارضة، فاستغلّ الاثنان حنَق متطرفي المحدثين عليه، فحاكموه أكثر من مرّة وسجنوه وضربوه موهمين الخصوم المذهبيين أنهم فعلوا ذلك بسبب زندقته وضلاله وانحرافه، فانطلت عليهم الحيلة وروّجوها بغباء، وإلا فلماذا لم يستتب الألوف من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين المشاهير من جميع الفرق والنحل؟
ثم، هل يُعقل أن يكون أبو حنيفة ضعيفا عند البخاري فلا يُخرّج له في كتبه ولو حديثا واحدا، فقط لأنه “مرجئ”؟
البخاري أخرج في أصح كتبه لعشرات المرجئة والروافض والخوارج… حتى عدّ ذلك بعض خصومه ومنتقديه عيبا وخللا، فتولّى الحافظ ابن حجر الدفاع عنه في مقدمة فتح الباري ثم في صلب شرحه
والبخاري لم يدرك أبا حنيفة ولا درس كتبه، وإنما هو مقلّد للثوري وحماد وأضرابهما في اتهام الرجل والقدح في إيمانه واعتقاده، ولن ينفعه ذلك حجة بين يدي الله.
ولست أدري لماذا قلّد الطاعنين ولم يلتفت لمدح المنصفين على كثرتهم.
إنه التعصّب والتطرّف والإمعان في التحقير من علم أبي حنيفة وفقهه لا الإرجاء.
ولنا أن نتعجّب في الختام من إصرار سفيان الثوري على الضغينة نحو أبي حنيفة بعد موته وقد نُقل عنه أنه تاب مما رُمي به، ثم من انتقاء البخاري للرواية الساكتة عن توبة أبي حنيفة:
قال ابن حنبل في العلل ومعرفة الرجال – رواية ابنه عبد الله (2/ 545): سَمِعت سُفْيَان بن عُيَيْنَة يَقُول: استتيب أَبُو حنيفَة مرَّتَيْنِ. فَقَالَ لَهُ أَبُو زيد يَعْنِي حَمَّاد بن دَلِيل رجل من أَصْحَاب سُفْيَان لِسُفْيَان: فِي مَاذَا؟ فَقَالَ: سُفْيَان تكلم بِكَلَام فَرَأى أَصْحَابه أَن يستتيبوه فَتَابَ.
وفي الانتقاء لابن عبد البر (ص: 150): وَذَكَرَ السَّاجِيُّ فِي كِتَابِ الْعِلَلِ لَهُ في بَاب أَبى حنيفَة أَنه استتيب في خَلْقِ الْقُرْآنِ فَتَابَ. وَالسَّاجِيُّ مِمَّنْ كَانَ يُنَافِسُ أَصْحَابَ أَبِي حَنِيفَةَ. هـ
وروى اللالكائي في شرح السنة (2/270) بإسناده عن عبد الله بن المبارك أنَّه قال: “والله! ما مات أبو حنيفة وهو يقول بخلق القرآن، ولا يدينُ الله به”.
تعلّمنا من ديننا أنه لا يلام التائب ولا يُعاتب، لكن المذهبية والمنافسة حالا دون ذلك عند هؤلاء.
غفر الله للجميع.
ومن عجائب القدر أن يتهم البخاري ذاته بمقولة خلق القرآن، فيُطرد من نيسابور، ويتخلى عنه كثير من أصحابه وتلامذته، ويُحكم عليه بالضلال والابتداع… كما تدين تدان.
النقل الثاني: حدثنا نعيم ثنا الفزاري، قال: كنت عند الثوري، فنُعي أبو حنيفة، فقال: الحمد لله، وسجد، قال: كان ينقض الإسلام عروة عروة، وقال يعني الثوري: ما ولد في الإسلام مولود أشأم منه. هـ
هذا الموقف القبيح الآثم من سفيان الثوري –رحمه الله- عند وفاة أبي حنيفة -رضي الله عنه- منقول من طرق متعددة وألفاظ متفاوتة تدور على المعنى ذاته، منها:
قال أبو عاصم في تاريخ بغداد وذيوله ط العلمية (13/425): سمعت سفيان الثوري بمكة وقيل له: مات أبو حنيفة. فقال: الحمد لله الذي عافانا مما ابتلى به كثيراً من الناس» في لفظ: ذكر عند سفيان موت أبي حنيفة فما سمعته يقول: رحمه الله، ولا شيئاً، قال: الحمد لله الذي عافانا مما ابتلاه به».
وفي حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (7/16) عن يُوسُف بْن أَسْبَاطٍ، قَالَ: ” كُنْتُ عِنْدَ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ فَوَرَدَ عَلَيْهِ نَعْيُ أَبِي حَنِيفَةَ، فَقَالَ: «الْحَمْدُ لِلَّهِ، كَانَ يَنْقُضُ عُرَى الْإِسْلَامِ عُرْوَةً عُرْوَةً»
وفي المجروحين لابن حبان (3/65) وتاريخ بغداد (13/425)، قال عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ حَسَّانٍ: كُنْتُ مَعَ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ بِمَكَّةَ عِنْدَ الْمِيزَابِ، فَجَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ: إِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ مَاتَ. قَالَ: اذْهَبْ إِلَى إِبْرَاهِيمَ بْنِ طَهْمَانَ فَأَخْبِرْهُ. فَجَاءَ الرَّسُولُ فَقَالَ: وَجَدْتُهُ نَائِمًا. قَالَ: وَيْحَكَ، اذْهَبْ فَأَنْبِهْهُ وَبَشِّرْهُ، فَإِنَّ فَتَّانَ هَذِهِ الأُمَّةِ مَاتَ، وَاللَّهِ مَا ولد فِي الْإِسْلَام مَوْلُودٌ أَشْأَمُ عَلَيْهِمْ مِنْ أَبِي حنيفَة، وَللَّه لكان أَبُو حَنِيفَةَ أَقْطَع لِعُرْوَةِ الإِسْلامِ عُرْوَةً عُرْوَةً مِنْ قَحْطَبَةَ الطَّائِيِّ بِسَيْفِهِ.
قال الخطيب بعده: أراد الثوري أن يغم إِبْرَاهِيم بوفاة أَبِي حنيفة، لِأَنَّهُ عَلَى مذهبه في الإرجاء. هـ
وفي الرد على الخطيب لابن النجار المطبوع مع تاريخ بغداد ط العلمية (22/102): هذا قد بين أن سفيان كان له غرض مع أبى حنيفة حتى أنه لما مات لم يترحم عليه مع كونه من أهل القبلة بلا شك. وقال: الحمد الله الذي عافانا مما ابتلاه به. فإن كان حمد الله على كونه عافاه من الموت الذي ابتلاه به فقد أخطأ، فإن الله لا يعافي أحدا منه. ولو كان ذلك لكان في حق النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ قَالَ له: (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ). وإن كان حمد الله على أنه عافاه بلاء ابتلى به أبا حنيفة دونه، فكان ينبغي أن يبينه. هـ
لقد أفرط سفيان الثوري في التحامل والحَنق، على رجل تاب مما نُسب إليه، وما اتهم بكبير شيء يستحق هذا الطرب والفرح الذي جعل سفيانا يستفز ابنَ طهمان أحدَ أصحاب أبي حنيفة.
الموت سبب لنسيان الخصومات والخلافات، لكن شدة تعصب سفيان على أبي حنيفة حالت دون سلوكه مسلك الورعين الأتقياء.
وإذا كان هذا الموقف المخزي من الثوري، فانظر إلى هذا التصرّف العظيم ممن هو أجلّ شأنا وفقها وعلما:
قال روح بن عبادة: كنت عند ابن جُرَيْج سنة خمسين يعني ومئة، وأتاه موت أبي حنيفة، استرجع، وتوجع، وَقَال: أي علم ذهب؟ قال: ومات فيها ابن جُرَيْج. (أخبار أبي حنيفة وأصحابه (ص: 82) وأخبرنَا تاريخ بغداد ت بشار (15/ 460) وتهذيب الكمال في أسماء الرجال (29/ 429)
وفي أخبار أبي حنيفة وأصحابه للصيمري (ص: 80) عن أبي الْوَلِيد قَالَ: كَانَ شُعْبَة حسن الذّكر لأبي حنيفَة كثير الدُّعَاء لَهُ، مَا سمعته قطّ يذكر بَين يَدَيْهِ إِلَّا دَعَا لَهُ.
وعن نصر بن عَليّ قَالَ: كُنَّا عِنْد شُعْبَة فَقيل لَهُ: مَاتَ أَبُو حنيفَة؟ فَقَالَ بَعْدَمَا اسْترْجع: لقد طفئ عَن أهل الْكُوفَة ضوء نور الْعلم، أما إِنَّهُم لَا يرَوْنَ مثله أبدا.
وفي الانتقاء لابن عبد البر (ص: 126) عن عَبْد الصَّمَدِ بْن عبد الوارث قَالَ: كُنَّا عِنْدَ شُعْبَةَ بْنِ الْحَجَّاجِ، فَقِيلَ لَهُ: مَاتَ أَبُو حَنِيفَةَ. فَقَالَ شُعْبَةُ: لَقَدْ ذَهَبَ مَعَهُ فِقْهُ الْكُوفَةِ تَفَضَّلَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَعَلِيهِ برحمته.
وقال عبد الله بن داود الخريبي: يَنْبَغِي لِلنَّاسِ أَنْ يَدْعُوا فِي صَلَاتِهِمْ لِأَبِي حَنِيفَةَ، لِحِفْظِهِ الْفِقْهَ وَالسُّنَنَ عَلَيْهِمْ. مناقب الإمام أبي حنيفة وصاحبيه (ص: 32) وتاريخ بغداد ط العلمية (13/ 344) والبداية والنهاية ط إحياء التراث (10/ 114)
وإذا كانوا يزعمون أن الجنائز هي الفيصل، فإن الحَسَن بن يُوسُف- الرجل الصالح- قَالَ: يوم مات أَبُو حنيفة صُلّي عَلَيْهِ ستُّ مرار، من كثرة الزحام، آخرهم صلى عَلَيْهِ ابنه حَمَّاد، وغسله الحَسَن بن عمارة، ورجلٌ آخر. تاريخ بغداد وذيوله ط العلمية (13/ 425)
فكفاه ذلك شرفا وشهادة دالّين على أن قلوب العامة كانت مع أبي حنيفة وأن الثوري أساء الأدب وآذى نفسه.
وأما أبو حنيفة فلم تُحفظ عنه كلمة سوء في سفيان الثوري، بل ورد عنه الثناء والمدح، فقدّس الله سرّه:
في المجالسة وجواهر العلم (6/274) عن يَحْيَى بْن يَمَانٍ؛ قَالَ: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لا يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ مَا أَبْقَى الله عَزَّ وَجَلَّ سُفْيَانَ الثَّوْرِيَّ.
وفي مناقب الإمام أبي حنيفة وصاحبيه للذهبي (ص: 43) عن عبد الْحَمِيدِ الْحِمَّانِيّ، قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، فَجَاءَهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: سَمِعْتُ سُفْيَانُ يَنَالُ مِنْكَ، وَيَتَكَلَّمُ فِيكَ، فَقَالَ: «غَفَرَ اللَّهُ لَنَا وَلِسُفْيَانَ، لَوْ أَنَّ سُفْيَانَ فُقِدَ فِي زَمَنِ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، لَدَخَلَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَقْدُهُ».
فانظر إلى الفارق الذي جعل مذهب أبي حنيفة ينتشر في البلدان، بينما طوي رأي الثوري في الصحائف والكتب.
لو أن البخاري أنصف ولم يحشر أنفه في الخصومة بين الأقران، لكان أورع الناس وأكثرهم موضوعية، لكن طبع التعصّب غلاّب.
ثم إن سفيان الثوري ندم وتاب من عدوانه على أبي حنيفة، وهو ما أخفاه البخاري أو جهله:
روى ابن عبد البر بإسناده في الانتقاء (ص: 142) عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ قَالَ: سَمِعْتُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيَّ يَقُولُ: كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ شَدِيدَ الأَخْذِ لِلْعِلْمِ، ذَابًّا عَنْ حَرَمِ اللَّهِ أَنْ تُسْتَحَلَّ، يَأْخُذُ بِمَا صَحَّ عِنْدَهُ مِنَ الأَحَادِيثِ الَّتِي كَانَ يَحْمِلُهَا الثِّقَاتُ، وَبِالآخَرِ مِنْ فِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَبِمَا أَدْرَكَ عَلَيْهِ عُلَمَاءَ الْكُوفَةِ، ثُمَّ شَنَّعَ عَلَيْهِ قَوْمٌ يَغْفِرُ الله لنا وَلَهُم.
وأسند الصيمري في كتاب أخبار أبي حنيفة وأصحابه (ص: 75) من طريق آخر عن ابْن الْمُبَارك قَالَ: قلت لأبي عبد الله سُفْيَان الثَّوْريّ: مَا تَقول فِي الدعْوَة قبل الْحَرْب؟ قَالَ: إِن الْقَوْم الْيَوْم قد علمُوا مَا يُقَاتلُون عَلَيْهِ. فَقلت: إِن أَبَا حنيفَة يَقُول فِيهَا مَا قد بلغك. فَنَكس رَأسه ثمَّ رَفعه فأبصر يَمِينا وَشمَالًا فَلم ير أحدا قَالَ: إِن كَانَ أَبُو حنيفَة يركب فِي الْعلم أحد من سِنَان الرمْح، كَانَ وَالله شَدِيد الْأَخْذ للْعلم، ذابا عَن الْمَحَارِم، مُتبعا لأهل بَلَده، لَا يسْتَحل أَن يَأْخُذ إِلَّا بِمَا يَصح عِنْده من الْآثَار عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، شَدِيد الْمعرفَة بناسخ الحَدِيث ومنسوخه، وَكَانَ يطْلب أَحَادِيث الثِّقَات وَالْآخر من فعل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَمَا أدْرك عَلَيْهِ عَامَّة الْعلمَاء من أهل الْكُوفَة فِي اتِّبَاع الْحق أَخذ بِهِ وَجعله دينه، قد شنع عَلَيْهِ قوم فسكتنا عَنْهُم بِمَا نَسْتَغْفِر الله تَعَالَى مِنْهُ، بل قد كَانَت منا اللَّفْظَة بعد اللَّفْظَة. قَالَ: قلت: أَرْجُو أن يغْفر الله تَعَالَى لَك ذَلِك. هـ
تراجع الثوري وبقي البخاري متمسكا بسقطته وكبوته.
النقل الثالث: حدثنا صاحب لنا عن حمدويه قال: قلت لمحمد بن مسلمة: ما لرأي النعمان دخل البلدان كلها إلا المدينة؟
قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “لا يدخلها الدجال ولا الطاعون، وهو دجال من الدجاجلة”. هـ
وأورده في التاريخ الكبير أيضا(1/240) بصيغة التمريض: وَقِيلَ لمُحَمد بْن مَسلَمة: ما لرأي فُلان دخل البلاد كلَّهَا إلا المَدِينة؟ فقَالَ: إِنَّهُ دَجّالٌ من الدَّجاجِلَةِ، وقَالَ النَّبيُّ صَلى اللَّهُ عَلَيه وسَلم: لاَ يَدخُلُها الطّاعُونُ، ولاَ الدَّجّالُ”.
قال ابن النجار في الرد على الخطيب ذيل تاريخ بغداد ط العلمية (22/65): أما هذا الخبر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم فصحيح، وأبو حنيفة قد دخل المدينة ودخلها مذهبه، فلو كان الأمر كذلك لما دخلها. وأما قوله إن مذهبه ما دخلها فباطل، لأن في المدينة من أهل مذهب أبى حنيفة جماعة لا يحصون، وقد دخلها من زُوار الحُجّاج ممن يقول بمذهب أبي حنيفة من لا يعد ولا يحصى كثرة في كل سنة من الأعوام. هـ
قلت: محمد بن مسلمة أحد أصحاب مالك بن أنس، فلا عجب يدفعه التعصّب وقلّة الورع إلى وصف عالم من علماء المسلمين دجّالا بسبب آرائه، لكن المتضرّر هو المفرط في الشتم الموغل في الحقد.
وإنها لكلمة جدّ قبيحة ومعصية كريهة.
والبخاري الذي يروّجها ويحتج بها على ضعف أبي حنيفة شريك في الإثم والعدوان.
لكننا لا نقطع بصحة النقل عن محمد بن مسلمة، فقد يكون المنسوب إليه كذبا وتزويرا، ذلك أن البخاري أبهم اسم صاحبه الذي حدثه تدليسا، وكان عليه بيانه لنعرف حال دليله.
وشيخه حمدويه هو ابن مخلد كما جاء واضحا في تاريخ بغداد، لا وجود له في أي إسناد إلا إسناد هذه القصة الفجّة، ولا ترجمة له في طول كتب التراجم وعرضها.
أي أن البخاري –مدفوعا بالمذهبية الحاقدة- يستند في اتهامه لشخصية فقهية كبيرة إلى رواية مجهول عينا وحالا، دون وازع من التقوى والموضوعية.
ثم عرفنا صاحب البخاري الذي حدثه بالكذبة، فقال الخطيب في تاريخ بغداد ط العلمية (13/396): أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الأزرق، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ الْمُقْرِئُ أَنَّ أَبَا رَجَاءٍ الْمَرْوَزِيَّ أَخْبَرَهُمْ قَالَ: قَالَ حَمْدَوَيْهِ بْنُ مَخْلَدٍ: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ الْمَدِينِيُّ- وَقِيلَ لَهُ: مَا بَالُ رَأْيِ أَبِي حَنِيفَةَ دَخَلَ هَذِهِ الأَمْصَارَ كُلَّهَا، وَلَمْ يَدْخُلِ الْمَدِينَةَ؟ قَالَ: لأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «عَلَى كُلِّ نَقَبٍ مِنْ أَنْقَابِهَا مَلَكٌ يَمْنَعُ الدَّجَّالَ مِنْ دُخُولِهَا» وَهَذَا مِنْ كَلامِ الدَّجَّالِينَ فَمِنْ ثَمَّ لَمْ يَدْخُلْهَا.
وأبو رجاء المروزي الذي كان من أصحاب البخاري هو محمد بن حمدويه بن موسى بن طريف أبو رجاء السنجيّ الهورقانيّ (ت306)، وَله كتاب مُصَنف فِي تَارِيخ المراوزة. ترجمته في تاريخ الإسلام ت تدمري (23/194) سير أعلام النبلاء ط الحديث (11/ 156) وتوضيح المشتبه (3/317)
فإن الحافظ المزي ذكر في تهذيب الكمال في أسماء الرجال (1/ 291) البخاري وأبا رجاء المروزي هذا في جملة تلامذة المترجَم أَحْمَد بن الْحَسَن بن جنيدب التِّرْمِذِيّ الْحَافِظ صاحب أَحْمَد بْن حنبل، فهو صاحبه في بعض الشيوخ.
وقد وصفه الذهبي بالإمام المحدث، لكنه لم ينقل فيه توثيقا لأحد، فهو مجهول الحال وإن كان إماما محدثا، فإن الإمامة في الحديث لا تنفي الكذب أو الخطأ والتحريف.
ومن هنا يظهر لك لماذا دلّسه البخاري، فإنه لم يتبيّن حاله من العدالة والضبط، وربما لم يعرفه إذ لم يترجمه في أي من كتبه، ولم يرو له إلا في هذا الموضع حين احتاج للطعن في أبي حنيفة.
فالسند فيه مجهول حال هو أبو رجاء المروزي، ومجهول العين والحال هو حمدويه بن مخلد، فبرئت عهدة محمد بن مسلمة، وتحمّل البخاري وزر حكايتها والاحتجاج بها مع علمه بضعفها وبطلانها.
ورجل يعتدّ بالمجاهيل في حكمه على رجل مثل أبي حنيفة ونعتِه دجالا، غير مؤتمن ولا موثوق في تصحيحه وتضعيفه.